وجهة نظر

الحسن الثاني و”خدام الدولة”

بتاريخ 24 من شهر يوليوز 2016، في بلاغ بعيد عن لغة الإدارة وبصيغة أقرب إلى السياسة والإعلام، أصدرت وزارتي الداخلية والاقتصاد والمالية بلاغا للرأي العام ” بخصوص المزاعم والاتهامات المغرضة الموجهة ضد والي جهة الرباط-سلا القنيطرة بخصوص قطعة أرضية تابعة للملك العمومي” معتبرة “أن هذه القطعة الأرضية جزء من تجزئة سكنية لموظفي وخدام الدولة منذ عهد المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه” محددة السند القانوني للتفويت في مرسوم للوزير الأول الصادر بتاريخ 26 دجنبر 1995 ، كما أن البلاغ عبر عن “الاستغراب من أن ينخرط في هذه الحملة المغرضة ضد والي الجهة حزب سياسي والمنابر التي تدور في فلكه والذين كان من الأجدر بهم أن يطالبوا بتغيير المرسوم المذكور بدل التشهير بمسؤول سام مشهود له بالكفاءة و بالحرص على خدمة الصالح العام علما بأن تغيير مرسوم لا يتم إلا بمرسوم حسب القاعدة القانونية. وهو ما يوضح بجلاء، إن كان الأمر يحتاج إلى ذلك يتعلق بحملة انتخابية سابقة لأوانها، لاعتبارات سياسوية ضيقة الهدف منها تحقيق مكاسب انتخابوية صرفة، تحت ذريعة إعمال قواعد الحكمة الجيدة ومنع تضارب المصالح الشخصية مع المسؤوليات العمومية”.

بلاغ استثنائي من حيث ملابساته ومن حيث الشكل والمضمون، ولعل فقرته الأخيرة تدعو للكثير من التساؤل بخصوص أي دور يمكن أن تلعبه الوزارة الترابية مثلا في الاستحقاقات المقبلة والتي نعول على شفافيتها، وهي تدلي بتصريح اتهام لحزب بخرق قانون الانتخابات وبداية الحملة قبل الأوان؛ الغريب في الأمر هو أنها كوزارة لها جميع الآليات للتصدي لذلك، ولعل منع موائد الإفطار التطوعية في رمضان لبعض الجمعيات هو من صميم ذلك.

لكن الأهم من هذا وذاك وفي باب ترسيخ دولة المؤسسات، فإن هذه الوزارة بعض النظر عن أنها جزء من الحكومة، فإنها بصفتها السلطة الإدارية التي يتم إيداع جميع الأحزاب أوراقهم وملفاتهم لديها، يفترض فيها الحرص على أخذ نفس المسافة مع كافة الأحزاب السياسية وعدم إضفاء الطابع الرسمي على تفضيل ما لأي حزب كيفما كان، لأنها بذلك إنما تهزمه من حيث تريد أن تخدمه ؛ ناهيك عن أنه تدخل سافر في التأثير على إرادة الناخبين والمساهمة في احتقان القوى السياسية ونحن على مشارف الانتخابات التشريعية.

أما الشهادة لمسؤول بالكفاءة والحرص على خدمة الصالح العام فهو توريط له أكثر مما يبرؤه والحال إن كان متهما فيمكنها كوزارة أن تؤازره أمام القضاء وتقف إلى جانبه إلى أن تثبت براءته ويرد له اعتباره وهو ما يدخل في نطاق السلطة القضائية لا غير والتي يمكن أن يلجأ إليها الوالي أيضا ضد المنابر الإعلامية بتهمة التشهير لإنصافه.

أما من حيث موضوع البلاغ، فالغريب أنه يتحدث عن الملك العمومي في حين أن الواقعة تتعلق بالملك الخاص للدولة وليس العام.

كما أنه يقترح حلا على الحكومة التي ينتمي إليها الوزيران اللذان أصدراه بأن تطالب بتغيير المرسوم المذكور بدل التشهير به لأن تغيير مرسوم لا يمكن أن يتم إلا بمرسوم حسب القاعدة القانونية.

لكن يبدو أن البلاغ يفتقر إلى عقل قانوني أو أنه فضل الاندفاع العاطفي فلم يتحر الدقة القانونية اللازمة، لأن المراسيم التي لا تتغير إلا بمراسيم أخرى ناسخة أو معدلة هي المراسيم المستقلة العامة وهي في أغلب الأحيان منشورة في الجريدة الرسمية حتى قبل دسترة النشر سنة 2011 ، والحال هاته أن مرسوم الوزير الأول الذي استند عليه البلاغ والصادر بتاريخ 26 دجنبر 1995 ، يدخل ضمن المراسيم المستقلة الفردية وهي القرارات التي تقوم السلطة التنظيمية بإصدارها بخصوص حالة معينة وواقعة معينة وأشخاص معينين وبالتالي تستنفذ بمجرد تطبيقها لمرة واحدة كقرارات التعيين أو مراسيم منح الجنسية. بمعنى أنها لاتحتاج إلى مرسوم إلغاء، لاسيما أن هذا النوع غالبا ما لا يتم نشره في الجريدة الرسمية.

وقد اعتبر الأستاذ باينة بأنها وإن كانت تأخذ مرتبة القانون إلا أنها تبقى مقررات إدارية قابلة للطعن أمام القضاء الإداري. كما أن الأستاذ محمد أشركي يرى أن هذه المراسيم المستقلة ليست لها أي هوية قانونية تميزها عن غيرها، فهي تحتل في سلم تدرج القواعد القانونية نفس المرتبة التي يحتلها كل مرسوم تنظيمي وهي تخضع بذلك للدستور والقوانين والمبادئ العامة للقانون التي تنزل منزلة القانون حتى ولو اتخذت بناء على تأهيل تشريعي.

وبالرجوع إلى نص البلاغ، نجده قد أقحم عهد جلالة الملك الحسن الثاني في هذه النازلة في حشو واضح دون حساب لعواقب ذلك في زمن الثورة على الريع السياسي ومرحلة ارتفعت فيها سقف المطالب الاجتماعية، لا سيما بعد فتح أوراش في السياسة الملكية الاجتماعية لصاحب الجلالة محمد السادس كورش التنمية البشرية، في ظل حكومة فشلت في مواكبة هاته السياسة. ولعل الذاكرة القانونية والسياسية المغربية ستحتفظ بكثير من العرفان للملك الراحل بمحطتين على صلة بهذا الموضوع وبمحطة لجلالة الملك محمد السادس في نفس السياق.

ففي سنة 1967 والمغرب يعيش حالة استثناء أي في فترة كانت جميع السلط بيد الملك إلا أنه أصدر مرسومه الملكي الشهير رقم 330.66 بتاريخ 21 أبريل، المتعلق بسن نظام عام للمحاسبة العمومية المنشور بالجريدة الرسمية عدد 2843 بتاريخ 26 أبريل 1967 صفحة 810؛ هذا المرسوم حمل في فصله 82 أول قيد لاقتناء أملاك الدولة الخاصة، واشترط مسطرة المزاد العلني المبنية على الإشهار للعقارات التي تتجاوز قيمتها 800 ألف درهم.

إن اهتمام ملك في حالة استثناء وجميع السلط في يده بحماية ملك الدولة، هو سلوك يستدعي الوقوف والتأمل، بل وأكثر من ذلك، وفي نفس السياق، في سنة 1971 عرفت البلاد أكبر محاكمة للوزراء وكان من بين أسباب المحاكمات فضيحة مساكن الدولة التي بيعت لموظفين كبار بأثمنة تكاد تكون عديمة القيمة، بالإضافة إلى فضيحة الأراضي المسترجعة والرخص والامتيازات ولاسمير وصندوق الإيداع والتدبير وغيرها من الفضائح التي فجرتها قضية “بانام” الأمريكية أو ما كان يعرف بمشروع الفندق الكبير للدار البيضاء.

ولقد اعتبرت محاكمة وزراء الحسن الثاني حينها من أجرأ القرارات السياسية في المغرب الحديث ضد الفساد والارتشاء في صفوف كبار الموظفين.

وعودة إلى إبرام التفويتات المتعلقة بأملاك الدولة الخاصة يبقى السؤال مطروحا إلى أي حد يمكن الرجوع إلى مرسوم مستقل فردي لإبرام معاملات ينظمها مرسوم مستقل عام وهو مرسوم رقم 2.02.185 صادر في 5 مارس 2002 بتغيير وتتميم المرسوم الملكي رقم 330.66 بتاريخ 21 أبريل 1967 بسن نظام عام للمحاسبة العامة، والذي سار على نفس نهج حماية الملك الخاص للدولة، وهو المرسوم الذي وقعه الوزير الأول أنذاك عبد الرحان اليوسفي بناء على الرسالة الملكية الموجهة إليه كوزير أول بتاريخ 9 يناير 2002 في موضوع التدبير اللامتمركز للاستثمار، باعتباره ورشا حظي بأهمية وعناية خاصة من الملك محمد السادس وذلك عقب دراسة المشروع في المجلس الوزاري المجتمع في 5 مارس 2002 تحت رئاسته السامية، فهل يرقى مرسوم الفيلالي الفردي إلى هذا المرسوم العام الذي حصن اقتناءات الملك الخاص للدولة من جشع الريع واستخدمه كآلية حقيقية من أجل تشجيع الاستثمار لخلق مناصب الشغل وامتصاص الاحتقان السياسي وصعوبة الوضع الاقتصادي غداة ما أسماه جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله بالسكتة القلبية.

هذا البلاغ الذي أسال مداد الغبن لا بد له أن يسيل مداد الإنصاف، ولئن كان في طياته حنين لحقبة من تاريخنا فإن لنا نفس الحنين لكننا نرجو منه ما لا يرجون…

ليت محاكمات 1971 تعود، لاسيما مع تناسل فضائح الوزراء في هذه الحكومة الفاشلة وقصورهم عن استيعاب الظرفية الدولية والمحلية التي يمر منها المغرب.

ورحم الله الملك الراحل ورحم الله زمان أحزاب وطنية كان فيها رجال من طينة اليوسفي … رجال مهما اختلفنا معهم وحولهم، صدقوا الوطن ما عاهدوه قدر ما استطاعوا.

ــــــ

باحثة في القانون العام