وجهة نظر

بنيامين نتنياهو.. القوة تصنع السلام

“أسرار التسويق عند بيبي” كتاب ألّفه داني فيدوسلافسكي المتخصص في سلوك الأفراد والجماعات، وبيبي هذا ليس إلا بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي الأطول مدة في هذا المنصب، فقدتمكّن من الاحتفاظ به لأكثر من عشرة أعوام متوالية(2009 ـ 2019).ث رغم سوء تدبيره لأزمة كورونا،والاتهامات الموجهة إليه بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة،خاصة في صفقة الغواصات التي يتابع فيها بتهمة تلقي عمولات غير قانونية، وخروج المظاهرات ضده لمطالبته بالتنحي، لكنه لازال يتمتع بثقة الإسرائيليين كما تُبين نتائج استطلاعات الرأي.

يَعتبر الكتاب أن أبرز عنصر في النجاح السياسي لنتنياهو مبني على التلاعب والخداع، فهو لا يرى فيهما أي سمة غير أخلاقية، إنه بارع في إسماع كل فئة ما تحب سماعه، لا يأكل الخنزير أمام المتدينين، لكنه يلتهمه في بيته مع زوجته سارة. يشترك مع اليهود الأشكناز في الانحدار من أوروبا الشرقية، لكنه لا يشاركهم عيشتهم ولا أماكن سكنهم البئيسة، بل يقطن بقيساريا القريبة من تل أبيب موطن كبار أثرياء اليهود المهاجرين من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية. يدخن السيجار الغالي، ويأكل أفضل الوجبات العالمية، لا يصرف شيئا من جيبه، بل يعمل جاهدا لتحويل كل مصاريفه على نفقات الدولة. يحب الهدايا الغالية الثمن، ولا يمانع في طلب المزيد منها، قد يتصل بثري أهدى ساعة ذهبية لزوجته سارة ليعاتبه على عدم إرفاقها بخاتم ملائمللساعة!

يُقدّس يوم السبت لكنه لا يتلو أي أذكار كما يفعل عموم اليهود، وإذا ظهرت له حاجة مادية قضاها رغم أن السبت دينيا هو للراحة التامة يمنع فيه حتى استعمال وسائل النقل، لكن مصلحته الشخصية فوق كل اعتبار. يُردد على أسماع الحاخامات والمُتديّنين اليهود أن حنفية بيته تعطلت يوم السبت فلم يصلحها وترك الماء يغمر منزله احتراما للسبت المقدّس!

الكذب عنده مباح مادام يوصله لمآربه، سواء داخل حزبه أو حكومته، فما بالك مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين!كما أنه يتقن صياغة الرسائل القصيرة، والبسيطة، والمباشرة، والمؤثرة، التي تصيب وجدان الجمهور وتستقر في عقله، تَعلّم ذلك خلال دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث حصل على بكالوريوس في الهندسة المعمارية من معهد ماستشوستس (MIT)، وشهادة في إدارة الأعمال نالها في ثلاث سنوات بدل أربعة كما هو معمول به.

خلال فترته الدراسية لم يكن طالبا عاديا بل زعيما طُلابيا يُنظم المناظرات والنقاشات التي يَنْصَبّ جزء كبير منها لصالح اليهود، ساعده على ذلك إتقانه الكبير للغة الإنجليزية، وتلقّيه لدورات تدريبية في التقديم التلفزيوني، لذلك يَعرف أين يتموقع جيدا عند أخذ الصور. لمّا زار إسحاق شامير الولايات المتحدة الأمريكية للقاء الرئيس رونالد ريغين كان بنيامين نتنياهو يوصي مخرجي الصور أن يظهروه في الوسط بين الرئيسين كي يبدو كأنه منظم اللقاء وعنصر أساسي في المباحثات. لم يتردد نتنياهو في التخلي عن جنسيته الأمريكية حين نودي عليه للالتحاق بالبعثة الديبلوماسية الإسرائيلية في واشنطن.

لعبت الفترة التي قضاها نتنياهو في الولايات المتحدة الأمريكية دوراً كبيراً في حياته السياسية، فقد أقام خلالها علاقات مع كبار السياسيين الأمريكيين، ومجموعات الضغط، ولوبي المال اليهودي الذي يمول الحملات الانتخابية للرؤساء الأمريكيين، ومع قادة الجالية اليهودية ومع الإعلام الأميركي، وكوّن هناك أهم أفكاره وقناعاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما جعل من منصبه سفيرا لإسرائيل في الأمم المتحدة الذي عُيّن فيه سنة 1984 وهو يومها في الرابعة والثلاثين من عمره، جعل منه مِنصّة ليَظهر بصورة المدافع الشرس على مصالح اليهود وإسرائيل، ومواجهة الدول العربية والإسلامية بخطابات قوية ساهمت في تلميع صورته وتمهيد دخوله للحياة السياسية بإسرائيل، التي عاد إليها بعد أربع سنوات، لينتخب لأول مرة عضوا في الكنيسيت عن حزب الليكود سنة 1988، ويشغل منصب نائب وزير الخارجية لغاية سنة 1991.

لا أهمية عنده لِصِدْقِيَة رسائله وخطاباته بل الأهم أن تخترق مشاعر المتلقي وأحاسيسه، وتُقنعه بأن قائلها قائد ملهم، حتى لَقّبوه بالساحر والملك. في إحدى حملاته الانتخابية صاح في جمهوره الذي ناداه بالملك: استفيقوا! يجب عليكم أن تصوتوا وتدعوا عائلاتكم وأصحابكم للتصويت عليّ، فأنا لست ملكا، فالملوك ترث العروش ولا تخوض الانتخابات“.

لم تخرج علاقة نتنياهو مع النساء من معادلة تسخير كل شيء لخدمته وخدمة مصالحه الخاصة، فلم يتردد في التخلص من كل امرأة وقفت في طريق طموحاته ذات السقف العالي، لا العواطف المفترضة ولا الدين المشترك شفعت لزوجات نتنياهو في الاحتفاظ به. نرجسيته تمنعه من مبادرة أية فتاة بطلب علاقة معها بل كان دائم الاعتزاز بنفسه ومن تريده عليها أن تتقدم خطوات لتفوز به. تزوج نتنياهو ثلاث مرات، الأولى كانت عام 1972 من صديقته ميريام وايزمان التي تعرف عليها خلال الخدمة العسكرية لكنه افترق عنها لأنها عارضت كثرة أسفاره بسبب أعماله بين بوسطن وإسرائيل، وتنامى إلى علمهادخول زوجها في علاقات غرامية خارج بيته، فما كان منه إلا أن طلقها دون تردد ليتفرغ لأشغاله ومغامراته العاطفية، وقد أنجب منها ابنته “نوعا”. فتزوج بعدها سنة 1981بفلور كاتس الإنجليزية الأصل التي غيّرت ديانتها لليهودية إرضاء له، وهي التي دعمته بشتى الوسائل كي يبرز كقائد سياسي، فكانت تُحرر خطاباته ومقالاته،وتناقشه أفكاره السياسية وهي المتخرجة من نفس المعهد الذي درس فيه. لكنه قرر فجأة مغادرة الولايات المتحدة الأمريكية لدخول غمار السياسة في إسرائيل، فتبعته زوجته لكنها لم تتأقلم مع حياة سياسي صاعد، كل همه حضور الاجتماعات والمهرجانات، والتسويق السياسي لنفسه، وعدم التواجد في البيت إلا لماما، مع شكوكها كذلك من وجود علاقات له مع نساء أخريات، فطلبت الطلاق وغادرت إسرائيل.

أما زوجته الحالية (الثالثة) فهي سارة بن آرتسي التي ارتبطت به قبل الزواج، حين كان يلتقيها في أسفاره عبر طائرة العال التي اشتغلت مضيفة بها، توطدت العلاقة بينهما وانتهت بالزواج سنة 1991 بعدما أخبرته بأنها حامل منه، وقد أنجبت له ولدين، هما يائير وأفنير. يبدو أن يائير هو الأقرب لخلافة والده الذي بعثه للولايات المتحدة، فهو هناك للتفرغ لدراسته ومشاريعه، ولم يعد للقتال بعد 07 أكتوبر، فيما أبوه يُزايد على جنرالات فقدوا أبناءهم في الحروب مع العرب.

لم تبتعد سارة عن زوجها كما فعلت الزوجتان السابقتان بل رافقته في كل تحركاته السياسية، وتحرص أشد الحرص على الظهور بجانبه في المناسبات الرسمية، مُقلدة في ذلك بيل وهيلاري كلينتون، إنها مِثله تحب الحياة الباذخة على حساب الدولة، شديدة الغيرة عليه، لدرجة حرمانه من رؤية ابنته حتى لا يلتقي بزوجته الأولى، وتؤثر في بعض قراراته.

علمت سارة بعلاقة غرامية لزوجها مع فتاة تشتغل مستشارة للعلاقات العامة، أرادت المعارضة أن تستغل الحدث للقضاء على نتنياهو الذي كان يستعد لخوض انتخابات رئاسة حزب الليكود سنة 1993 لكنها لم تفلح في ذلك. فوّت نتنياهو عليها الفرصة بطلب مقابلة تلفزيونية اعترف فيها بخطيئته وأعلن خلالها ندمه وتوبته، واعتذر لزوجته، وطلب الدعم النفسي من الشعب لأن منافسيه يهددونه ويريدون تصفيته سياسيا حتى لا يصل لرئاسة الحزب، فانقلبت الفضيحة إلى تعاطف كبير معه.  

التقى بنيامين نتنياهو بالبروفيسور الفلسطيني إدوارد سعيد، لمّا شاركا في مناظرة دعت لها القنصل الإسرائيلي في بوسطن، وذلك للحديث عن الوضع السياسي في المنطقة العربية بعد حرب أكتوبر 1973،حينها اكتُشِفت قدراته الخطابية، رغم صعوبة موقفه بعد خسارة تلك الحرب، وبدا واضحا استيعابه للوضع في إسرائيل والمنطقة، من هناك انطلق حبه للكاميرات فبدأ ظهوره في التليفزيونات الأمريكية.

مُخطئ مَن يظن أن نتنياهو المُحب للشهوات والهدايا والأموال، الذي يُفضل نمط العيش البورجوازي، والمُتعطش لدماء العرب والمسلمين، يتحرك دون بوصلة دينية تلمودية متطرفة، على العكس من ذلك تماما، فقدتشرّبها منذ طفولته الأولى داخل فضاء أُسري هيمنت عليه سلطة الأب الذي يُعتبر من كبار مؤيدي التيار اليميني المتشدد، وهو الذي وجّه ابنه لضرورة خوض تجربة الخدمة العسكرية سنة 1967 حيث خدم نتيناهو في وحدة النخبة التابع لسلاح الاستخبارات العسكرية، وكان قائده إيهود باراك، استمر لمدة خمس سنوات وأصبح ضابطا برتبة نقيب. شارك في الهجوم على مطار بيروت الدولي عام 1968، وفي عملية إنقاذ طائرة بلجيكية اختطفتها مجموعة فدائية تابعة لمنظمة أيلول الأسود سنة 1972، كما خاض حرب أكتوبر 1973 التي تسميها إسرائيل حرب الغفران، التي انتصر فيها العرب عسكريا بفضل قادة عسكريين عظام مثل الفريق سعد الشاذليرئيس أركان القوات المسلحة المصرية، لكن ذلك الانتصار تحوّل لاتفاقية سلام فتحت باب الحظيرة.

إن والد نتنياهو الذي هاجر بأسرته من بولونيا لم يكن شخصا عاديا بل يُعدّ من أبرز الأكاديميين بدرجة بروفسور في تاريخ اليهود الأشكناز الذين أسسوا حزب العمل اليساري كي يدافع عن حقوقهم، وقد تخصص بعد ذلك في تاريخ يهود الأندلس. استطاع بن تسيون نتنياهوالوالد الذي وجد نفسه مرفوضا من مجموعته العرقية “الأشكناز” بسبب آرائه المتطرفة فغيّر ولاءه من حزب العمل إلى حزب الليكود اليميني. (استطاع) هذا القومي المتطرف الذي توفي سنة 2012 عن 102 عاما أن يزرع في ولده حب إسرائيل وقيم الصهيونية والعمل المستمر من أجلها. بجانب والده أثّر في شخصية بنيامين نتنياهو أخوه الأكبر يوني الذي كان قدوته ومثاله الأعلى في الحياة، وربطت بينهما علاقة قوية، وقد ترك مقتل الأخ الأكبر في عملية تحرير الرهائن بمطار عنتيبي بأوغندا سنة 1976 جراحا عميقة في نفسيته. لكنه نتنياهو استغل مقتل أخيه وأسس معهدا باسمه في واشنطن استدعى له كافة الأسماء الكبيرة في السياسة والاقتصاد الأمريكيين.

لم تكن الحياة السياسية لنتنياهو ناجحة دائما، بل داهمه الفشل في ولايته الأولى رئيسا للوزراء من سنة 1996 إلىسنة 1999 حين فاز في انتخابات عامة مبكرة بعد اغتيال إسحاق رابين، تفوّق فيها على شمعون بيريز، ليكون أول رئيس وزراء إسرائيلي ولد في إسرائيل. لكن العمليات الاستشهادية لحماس داخل أراضي 48 قَوّضت عمل حكومته فصوّت الكنيست الإسرائيلي على سحب الثقة منها والدعوة إلى انتخابات مبكرة خسرها نتنياهو في منتصف 1999 أمام منافسه من حزب العمل الإسرائيلي إيهود باراك، فتنحى نتنياهو عن زعامة حزب الليكود لصالح أرييل شارون. ظن البعض أن تلك المحطة هي ختام حكاية نتنياهو مع السياسة، لكنه مثل طائر الفينيق يجدد نفسه بنفسه وينبعث من تحت الرماد. غاب عن الساحة السياسية لمدة تناهز أربع سنوات اشتغل فيها في شركة الاتصالات الإسرائيلية، لكنه سرعان ما عاد إليها حين عيّنه شارون الفائز بانتخابات 2001 وزيرا للخارجية وبعدها وزيرا للمالية، وهو المنصب الذي نجح فيه نتنياهو نجاحا باهرا أعاد له بعضا من بريقه المفقود.

يعتنق نتنياهو عقيدة “الجدار الحديدي” لصاحبها المُنَظّر زئيف جابوتنسكي وهو رائد الحركة التصحيحية الصهيونية، كتب جابوتنسكي مقال الجدار الحديديباللغة الروسية سنة 1923 في صحيفة “رازسفيت” وهي إحدى الصحف المركزية ليهود روسيا. خلاصة نظريته أنهدف الصهيونية هو أرض إسرائيل بوصفها دولة واحدة على ضفتي الأردن، وهو الرأي الذي يردده سموتريتش وبن غفير اليوم ويتبنّاه نتيناهو الذي لا يؤيد حل الدولتين التي بشرت بها معاهدات السلام. يرى جابوتنسكي الذي كان والد نتنياهو سكرتيره الخاص، أن العرب لن يقبلوا أبدا بوجود إسرائيل بينهم، فالجسم يرفض الاستزراع، ولن يكون هناك تصالح بين الطرفين عن طيب خاطر مهما تعددت معاهدات السلام، لذلك على إسرائيل السعي لفرض سلسلة من الظروف السياسية والعسكرية التي تَحْرم العرب من التدخل في المشروع الصهيوني وذلك عبر استعراض القوة في حالات الضرورة، والسعي إلى فرض أكثرية يهودية على ضفتي الأردن، والاستعانة بالتحالف مع القوى الكبرى لتعزيز مكانة إسرائيل دوليا، وعدم الدخول في تفاوض مع العرب أو الفلسطينيين إلا من موقع قوة حتى يسهل فرض الشروط والإملاءات، وبناء جيش كبير لا يملك العرب مجتمعين هزمه، وهو ما ظهر جليا في أول حرب بين الطرفين سنة 1948. رغم أن النظرية الأخلاقية للجدار الحديدي لا تقول باعتبار العرب رعاع، بل هم شعب، حتى لو كان شعبا متخلفا إلا أنه شعب حي، لكن عليه أن ينكسر ويقطع أمله نهائيا في التغلب على إسرائيل.

صرّح نتنياهو في جلسة خاصة للكنسيت الإسرائيلي بتاريخ 03 غشت 2016 أنه ينتمي للتيار الذي سيستكمل طريق جابوتنسكي، لكنه يرى أن نظرية هذا الأخيرمتسامحة مع العرب وأن هؤلاء “الرعاع” لا يستحقون العيش على الأرض، ولا السلام، فهو رافض على طول الخط لأي صلح معهم، أو معاهدة تعترف بأي حق للفلسطينيين، شبر من الأرض محرم عليهم، إنه يستعداليوم لضم الضفة الغربية المشمولة باتفاقيات السلام!لذلك جعل من معاهدة أوسلو التي أبرمها رابين وياسر عرفات محطة احتجاجية قام فيها بالتحريض على رابين حتى تم اغتياله على يد اليمين المتطرف. إن نتيناهو أكثر صَقرية من شارون ومن عُتاة الصهيونية المتطرفة، يجمع بين التطرف والبرغماتية، لا يؤمن بالسلام، تخلّص من جميع منافسيه داخل حزبه وحكومته، فما بالك بالعرب والمسلمين، من ينتظر الأمن من كائن متوحش هدفه التخريب، يستهدف تعليم وفلاحة ومياه من مدَّ له يده بالسلام؟

إن نمو إسرائيل علامة على مرض العرب، الذين حاربوا قواهم الحية فرموا باليساريين والإسلاميين وغيرهم في السجون، وأبعدوهم عن موقع القرار وأسندوها لمن تعددت ولاءاتهم. لا مفر من الاستجابة لخيارات الشعوب التي غزت شوارع العالم بالمظاهرات ضد الإبادة الجماعية في غزة بعد طوفان الأقصى، إن تشكيل جبهات داخلية قوية مقاومة للمد الصهيوني هو السبيل الوحيد للتخلص من الامتداد السرطاني لدولة الاحتلال.     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *