وجهة نظر

ظاهرة المقاتلين الأجانب

تُعدّ ظاهرة المقاتلين الأجانب إحدى أبرز الظواهر الأمنية والسياسية في العقود الأخيرة، وقد اكتسبت زخمًا استثنائيًا مع صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، الذي نجح في استقطاب عشرات الآلاف من المقاتلين من مختلف القارات، بينهم نسبة معتبرة من النساء.

هذا النجاح في التعبئة يطرح سؤالًا إشكاليًا: لماذا نجح داعش في اجتذاب هذه الأعداد الكبيرة، بينما فشلت تنظيمات جهادية أخرى، مثل القاعدة أو الجماعات الجهادية المحلية، في ذلك؟

تهدف هذه الدراسة إلى فهم ديناميات الاستقطاب التي ميّزت تجربة داعش عن غيره من التنظيمات.

الإشكالية

  • ما العوامل التي جعلت من داعش أكثر قدرة على استقطاب المقاتلين الأجانب مقارنة بالتنظيمات الجهادية الأخرى؟
  • كيف استطاع التنظيم تجاوز عوائق المكان والثقافة واللغة ليجعل من مشروعه “عابرًا للحدود” وجاذبًا للرجال والنساء معًا؟

الفرضيات الأولية

  1. البعد الهوياتي

    لم يقدّم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) نفسه كحركة مسلّحة فحسب، بل ككيان سياسي ـ ديني متكامل يسعى إلى إعادة إحياء نموذج “دولة الخلافة”. هذا البعد الهوياتي منح التنظيم جاذبية استثنائية، خصوصًا لدى الفئات الباحثة عن الانتماء والمعنى في ظل أزمات الهوية والاغتراب الثقافي. فالانضمام إلى داعش لم يُنظر إليه كمشاركة ظرفية في عمل مسلّح، بل كخيار وجودي يستعيد سرديات الخلافة والتمكين والعدالة الإلهية. وقد ساعد هذا التصور على خلق ما يمكن وصفه بـ”الهوية الجمعية العابرة للحدود”، حيث وجد الشباب المسلم، سواء في الشرق الأوسط أو في المهجر الأوروبي، في التنظيم إطارًا يوحّدهم تحت راية دينية–رمزية كبرى، متجاوزًا حدود الدولة القومية.

    اعتمد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) خطابًا دينيًا يقوم على استدعاء الرموز الأخروية والملاحم المروية في النصوص الحديثية، خاصة ما يتعلق بـ”الملحمة الكبرى” و”نزول المسيح” و”خروج المهدي”. هذا الخطاب منح مشروعه بُعدًا روحانيًا عميقًا عزّز جاذبيته لدى فئات واسعة من المقاتلين، خصوصًا أولئك الذين يبحثون عن معنى وجودي يتجاوز السياسة والصراع المسلح التقليدي. وقد ركّز التنظيم على أن مسرح هذه الملحمة سيكون بلاد الشام، مستحضرًا روايات نبوية تُعطي لتلك الأرض مكانة مركزية في آخر الزمان. هذه المقاربة جعلت الانضمام إلى التنظيم لا يُقدَّم باعتباره مشاركة في حرب دنيوية فحسب، بل باعتباره “تلبية نبوية” واستعدادًا للمشاركة في حدث كوني فاصل بين الحق والباطل. ومن هنا تميز خطاب داعش عن القاعدة التي لم تذهب بعيدًا في توظيف الملحمة الكبرى.

  2. فقه “التمكين” وتجاوز مرحلة الاستضعاف

    تميّز خطاب داعش باستحضاره لمفهوم “التمكين” بوصفه المرحلة الشرعية التي تلي الاستضعاف، والتي تسمح بإقامة الدولة وتطبيق الشريعة. فبينما ظل تنظيم القاعدة أسير خطاب “الجهاد الدفاعي” والقتال من موقع “المستضعَفين”، قدّم داعش نفسه باعتباره قد تجاوز تلك المرحلة وأصبح في طور “التمكين”، وهو ما جسّده عمليًا بإعلان “الخلافة” سنة 2014. وقد استند التنظيم في ذلك إلى أدبيات سيد قطب حول “مرحلية الدعوة” ونظريات أبي عبد الله المهاجر وأبي بكر ناجي حول “إدارة التوحش”. وبهذا الشكل أعطى صورة متفردة عن نفسه ككيان حاكم يملك مقومات الدولة (أرض، جيش، موارد، مؤسسات)، وليس مجرد حركة مقاومة أو جماعة مسلحة. هذا التوظيف الفقهي عزّز الانطباع لدى المجندين الجدد أن داعش ليس مجرد امتداد للمشروع الجهادي السابق، بل نقلة نوعية إلى مرحلة “الخلافة المُمكَّنة” التي طالما انتظروها.

  3. مفهوم “الهجرة” إلى أرض الخلافة

أعاد داعش إحياء مفهوم “الهجرة” من التراث الإسلامي، حيث قدّمه كواجب شرعي عيني على كل مسلم قادر، لا باعتباره مجرد خيار دعوي أو جهادي. فقد صاغ التنظيم خطابًا يذكّر بالهجرة النبوية من مكة إلى المدينة باعتبارها انتقالًا من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين. بهذا المنطق، أصبحت الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم هي “دار الإسلام” التي تجب الهجرة إليها، مقابل “دار الكفر” التي يعيش فيها المسلمون في الشتات. وقد تم تعزيز هذا الطرح بخطاب تعبوي كثيف يحمّل من يتخلّف عن الهجرة مسؤولية دينية وأخلاقية، بل ووصمه أحيانًا بالنفاق أو الردة. هذا البعد جعل التجنيد لا يقتصر على المقاتلين، بل شمل عائلات وأفرادًا من مختلف الشرائح الذين رأوا في الانتقال إلى “أرض الخلافة” تطبيقًا لشعار “الهجرة والنصرة”. وبذلك استطاع التنظيم تجاوز الطابع العسكري الضيق، ليبني مشروعًا مجتمعيًا متكاملًا.

  1. 4. الآلة الإعلامية
    وظّف داعش الإعلام كسلاح استراتيجي لا يقل أهمية عن العمليات العسكرية. لقد اعتمد على إنتاج بصري عالي الجودة، يمزج بين تقنيات هوليوودية وخطاب تعبوي ديني، ما جعله يتفوق على معظم التنظيمات الأخرى في صناعة الصورة والرمز. عبر مجلات إلكترونية مثل دابق ورومية، وأشرطة فيديو مترجمة إلى لغات متعددة، خاطب التنظيم جمهورًا عالميًا متنوعًا. هذا الانتشار الرقمي لم يكن مجرد دعاية، بل مثّل وسيلة للتعبئة الفكرية والنفسية، وصناعة “مجتمع افتراضي” متماسك يُعيد إنتاج قيم التنظيم ورموزه. وفي إطار نظريات الاتصال، يمكن القول إن داعش نجح في خلق “فضاء عام بديل” ينافس الفضاء الإعلامي التقليدي.

5 شبكات التجنيد
اعتمد تنظيم داعش على مزيج معقّد من الشبكات المحلية والعابرة للحدود في عمليات الاستقطاب، وهو ما منحه قدرة غير مسبوقة على توسيع قاعدة أنصاره. هذه الشبكات لم تكن عسكرية فحسب، بل شملت دوائر اجتماعية ودعوية وروابط عائلية، فضلًا عن استثمار المساجد غير الرسمية، والفضاءات الجامعية، والمجتمعات المهاجرة في أوروبا. ما يميز داعش عن التنظيمات الجهادية الأخرى أنه لم يقتصر على الوسائل التقليدية المعروفة (التجنيد عبر الروابط القتالية أو الروابط الأيديولوجية الصارمة)، بل قام بدمج بين الدعوة الميدانية والدعاية الرقمية بشكل متزامن، ما جعله أكثر قدرة على الوصول إلى فئات متنوعة، وخصوصًا الشباب المولود في بيئات غربية يعاني من القطيعة والهشاشة الاجتماعية.

أما على مستوى النوع الاجتماعي، فقد برز تفوق داعش في توسيع دائرة التجنيد لتشمل النساء؛ إذ لم يُنظر إليهن كعناصر مساندة فقط كما في تجارب القاعدة والجماعات المماثلة، بل جرى توظيف خطاب “التمكين الأسري والديني” الذي منح المرأة دورًا يتجاوز التقليد الجهادي السابق (الاكتفاء بدور الزوجة أو الأم). فالمرأة في تصور داعش عنصر فاعل في بناء “المجتمع الإسلامي البديل”، سواء عبر الزواج بالمقاتلين، أو المشاركة في نشر الدعاية الرقمية عبر منصات التواصل، أو حتى الانخراط المباشر في العمل الأمني والتجسسي، كما تجلّى في “كتيبة الخنساء” وغيرها من الأجهزة النسائية.

هذا التوجه أتاح للتنظيم أن يضاعف من عمقه المجتمعي، ويمنح نفسه شرعية اجتماعية أوسع، إذ أصبح الخطاب الجهادي يتغلغل في البيوت والعلاقات الأسرية، بدل أن يظل حبيس الدوائر القتالية الذكورية. وإلى جانب ذلك، مكّنه من استقطاب شرائح جديدة لم تكن الحركات الجهادية السابقة قادرة على الوصول إليها، مثل الفتيات القاصرات في أوروبا أو ربات البيوت في المجتمعات العربية، وهو ما شكل فارقًا نوعيًا في ديناميات التجنيد.

وبذلك يمكن القول إن تفوق داعش في مجال الاستقطاب يكمن في التكامل بين المحلي والعابر للحدود، بين الرقمي والميداني، وبين الذكوري والنسائي، وهو ما جعله أكثر شمولية ومرونة مقارنة بالتنظيمات الجهادية الأخرى التي بقيت أسيرة أنماط التجنيد التقليدي.

  • كيف استطاع التنظيم تجاوز عوائق المكان والثقافة واللغة ليجعل من مشروعه “عابرًا للحدود” وجاذبًا للرجال والنساء معًا؟

مكن تحليل قدرة داعش على تجاوز المكان والثقافة واللغة، وعلى استقطاب النساء والأطفال والمراهقات الأجانب بأعداد غير مسبوقة، من خلال المستويات التالية

أولا  تجاوز عوائق اللغة

لم يكن حضور تنظيم “داعش” الإعلامي رهينًا بلغة واحدة، بل اتسم بتعدد لغوي مدروس مكّنه من اختراق بيئات اجتماعية وثقافية متباينة. ويمكن تمييز ثلاث آليات رئيسية في هذا السياق:

  1. التعدد اللغوي في الإعلام الدعائي
    اعتمد التنظيم على إستراتيجية “الترجمة الممنهجة” لمواده الإعلامية، حيث أطلق مجلات رقمية مثل دابق (Dabiq) ورومية (Rumiyah) بلغات متعددة (الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الروسية، التركية، وحتى اليابانية). هذا التنوع اللغوي لم يكن مجرد ترجمة حرفية، بل حرص على إنتاج خطاب يتلاءم مع المرجعية الثقافية واللغوية للمتلقي، ما سمح له بتجاوز الحواجز اللغوية وإعادة صياغة رسائله بما يتناسب مع حساسيات جمهور متنوع. كما أنّ الفيديوهات الدعائية صُممت بترجمات احترافية عالية الجودة، بل أحيانًا بأداء صوتي بلغات مختلفة، ما عزّز طابعها المهني ومصداقيتها لدى المتلقي.
  2. تجنيد نخب لغوية و”وسطاء ثقافيين
    عمل التنظيم على استقطاب مقاتلين ومناصرين من الجاليات الغربية والشرقية ممن يمتلكون كفاءات لغوية عالية، وقد تحوّل هؤلاء إلى “وسطاء ثقافيين” يترجمون الفكر الجهادي إلى لغات محلية بأسلوب طبيعي وغير متكلّف. وبهذا، لم يكتفِ التنظيم بنقل نصوص مترجمة، بل أعاد إنتاج المحتوى بما يعكس السياق الثقافي للجمهور المستهدف. هذا التوظيف عزّز من قدرة التنظيم على مخاطبة شرائح مختلفة من المسلمين المقيمين في الغرب، بل وحتى غير المسلمين المتعاطفين مع قضايا الصراع في الشرق الأوسط.
  3. استعمال لغة شبابية شعبية عابرة للثقافات
    إلى جانب الخطاب الديني الفقهي، تبنّى التنظيم لغة رقمية شبابية ذات جاذبية خاصة لدى المراهقين والشباب. فقد استخدم “ميمات الإنترنت” (Internet memes)، والشعارات القصيرة القابلة للتداول، والرموز البصرية (كالرايات السوداء والشعارات الموحِّدة)، ما سهّل عملية الانتشار في شبكات التواصل الاجتماعي. هذا الخطاب المبسّط والمشحون بالرمزية مكّن التنظيم من مخاطبة جيل يعيش على إيقاع العولمة الرقمية، حيث لا تشكل اللغة الرسمية عائقًا كبيرًا بقدر ما تفعل الرموز والصور والاختصارات التي يتقنها الشباب عالميًا.

إن هذه الآليات مجتمعة جعلت من خطاب داعش “خطابًا عابرًا للغات”، استطاع أن يدمج بين المهنية التقنية، والتكيّف الثقافي، والرمزية الشبابية. وهو ما يفسّر جانبًا من قدرته على استقطاب فئات واسعة من المقاتلين الأجانب والأنصار عبر القارات، بما في ذلك النساء والمراهقين الذين وجدوا في هذه اللغة المرنة والقابلة للتداول تعبيرًا عن ذاتهم وانتمائهم إلى مشروع “أممي” يتجاوز حدود الجغرافيا واللغة.

  • ثانيا  تجاوز عوائق الثقافة

. يمكن القول إنّ أحد أسرار نجاح تنظيم “داعش” في استقطاب مجندين من خلفيات متباينة ثقافيًا وحضاريًا هو قدرته على صياغة خطاب يتجاوز الانتماءات الضيقة، ويقدّم نفسه كمشروع شمولي يتسع للجميع. ويمكن تفصيل ذلك في ثلاثة مستويات:

  1. الخطاب الكوني والبعد الشمولي

لم يقدّم التنظيم نفسه باعتباره فاعلًا محليًا يعبّر عن قضايا محصورة في العراق أو سوريا، بل أعلن منذ البداية أنّه “خلافة” عابرة للحدود. هذا البعد الكوني منح مشروعه جاذبية خاصة، إذ جعل المسلم في أقصى الغرب يشعر أنّ له موطئ قدم في “أرض الخلافة”.

  • إطار نظري: هنا يمكن الاستناد إلى مفهوم الأممية الإسلامية كما تناوله بعض الباحثين، حيث يتم تجاوز الدولة-الأمة الحديثة لصالح “الأمة المتخيلة” (Benedict Anderson). داعش استثمر هذا الخيال الجماعي ليمنح شعورًا بالانتماء الكوني.
  • الجانب التعبوي: المجلات مثل دابق ورومية لم تخاطب جمهورًا محليًا فحسب، بل ترجمت إلى لغات متعددة، لتغذية هذا الشعور بالكونية والاشتراك في المشروع الحضاري الإسلامي الجامع.
  1. إلغاء الانتماءات الوطنية وبناء هوية بديلة

أحد أعمدة الخطاب الداعشي هو تقويض فكرة الدولة الوطنية الحديثة، التي اعتُبرت ـ في أدبياته ـ صناعة استعمارية قائمة على سايكس-بيكو. التنظيم قدّم بديلاً عنها هو “هوية الأمة”، التي تقوم على رابطة العقيدة لا على الأرض أو القومية.

  • انعكاسات ذلك: جعل الأوروبي الأبيض والمغربي والأسيوي يشعرون أنّهم على قدم المساواة مع العراقي أو السوري، تحت مظلة “الأخوة الإسلامية”. هذه المساواة الرمزية تجاوزت التراتب العرقي والثقافي الذي يعيشه هؤلاء في بلدانهم الأصلية.
  • أداة عملية: تبني شعار “كسر الحدود” في دعايته المرئية، حيث صوّر إزالة الحواجز بين العراق وسوريا كخطوة رمزية في تفكيك الحدود الاستعمارية وفتح المجال لوحدة الأمة.
  1. 3. إنتاج صورة نمطية جاذبة عن “المجتمع المثالي”

التنظيم حاول أن يقدّم نفسه كمنظومة بديلة عن “الفساد الغربي” و”الاستبداد الشرقي”. الخطاب ركّز على قيم نقاء الشريعة، العدالة الاجتماعية، المساواة بين المؤمنين، وتطبيق الحدود باعتبارها ضمانة للأمن المجتمعي.

  • الصورة البصرية: إنتاج فيديوهات تُظهر أسواقًا عامرة، توزيع مساعدات، محاكم شرعية، تعليم الأطفال القرآن، ليقدّم صورة مجتمع “طاهر” بعيدًا عن الانحلال الأخلاقي للغرب وعن فساد الأنظمة العربية.
  • الوظيفة النفسية: هذه الصورة مثّلت يوتوبيا إسلامية جذبت الشباب الباحث عن بديل لهويته القلقة في الغرب، أو الباحث عن “طهرية” دينية في الشرق.

تجاوز داعش عوائق الثقافة عبر بناء خطاب أممي شمولي، وتفكيك الانتماءات الوطنية لصالح هوية أممية، وإنتاج صورة مثالية عن المجتمع الإسلامي المنشود. هذا التوظيف الأيديولوجي لم يكن عشوائيًا، بل استند إلى خبرة في توظيف الرمزيات الإسلامية الكبرى (الأمة، الخلافة، الهجرة، التمكين)، وإلى فهم نفسي عميق لأزمة الهوية لدى المسلمين في الداخل والخارج.

ثالثا  جاذبية الخطاب للنساء

  • مربّية أجيال الخلافة: داعش عرضت دور الأم ليس كمهام منزلية فحسب، بل كمُكوّنة أساسية في “إعداد الجيل القادم” ليكون جزءًا من “دولة الخلافة”. هذا يعطي المرأة رسالة مفادها أنها ليست فقط في دور التقليدي (أم/زوجة) بل في مهمة تاريخية ودينية عظمى.
  • داعية إلكترونية: النساء يُطلب منهن أن يكنَّ “نُسخًا حضارية” للتنظيم على الإنترنت، يروجن للمنظومة، يشاهدن يُنشرن، يرددن الرسائل، يُظهِرن الحياة في الخلافة كأنها حياة مثالية. أي أن يبنين هوية “مؤثرة” حتى قبل أن يُقدمن على الهجرة أو الانضمام. الإنترنت يُتيح مساحة واسعة لذلك، خصوصًا لمن تشعر أنها مغيبة أو مهمشة في حياتها اليومية.
  • شرطة الحسبة النسائية / كتيبة الخنساء: هذا الدور يُقدّم للمرأة صورة أنها ليست فقط في البيت أو في الخلفية، بل مشاركة في الإدارة، الرصد، الالتزام بالعرف الديني، المُراقبة الخلقية، ما يُعطيها إحساسًا بالسلطة، بالمسؤولية، وبمشاركة فعالة في “الحكم” ضمن نظام التنظيم. هذا يُلبّي رغبة القدرة والمشاركة. 2. خطاب التمكين الأسري والنقاء
  • داعش استغلت الخوف من التحلّل/الإباحية/التحرّش في المجتمعات الغربية، لتقديم نفسها كملاذ آمن، بيئة “طاهرة” محترمة أخلاقياً، تُعيد للمرأة هويتها الدينية – وهو ما يكون مغريًا بشكل خاص لمن عانت من صدامات عائلية، أو شعرت أن قيمها تُهان أو تُؤخّر من التقدير.
  • تقديم “الأسرة المثالية” تحت راية الشريعة: تشكيل صورة رومانسية لشكل الأسرة، الزواج، الأطفال، الرعاية، الحياة المشتركة في ظل مبادئ يُفهم أنها عادلة ودينية ونقية. هذه الصورة تقدم وعودًا غير موجودة غالبًا في الواقع اليومي لكثير من الفتيات/النساء في الغرب – سواء بسبب تعقيد الحياة، العزلة، الفردية، أو اللجوء للتحديث الذي قد يشعر بعضهن أنه يفقد القيم التقليدية.
  • البُعد الرومانسي والعاطفي والزخم الأسطوري

  • الزواج من “المجاهد البطل: هذا عنصر أسطوري رومانسي يحفه التضحيات، البطولة، المغامرة، وهو ما يفتقر إليه الكثير من الفتيات المراهقات أو الشابات في البيئة الغربية. الرغبة في أن يكون للشريك معنى رمزي، أن يكون “بطلًا” ليس فقط شخصًا عاطفيًا، بل مقاتلًا من أجل قضية. هذا يعطي علاقة الزوجية بعدًا رمزيًا أعمق.
  • الحياة الزوجية في ظل الجهاد: تصوير الحياة الزوجية في الخلافة كما لو أنها مكان مقدس، حيث تُمارس الحياة العاطفية ضمن حدود الشريعة، حيث تُحترم المرأة، يُقدّرها المجتمع، وتكون جزءًا من مهمة مقدسة. وهذا يعيد بناء الجاذبية لما قد تُنسى أو يُهمَل في الحياة العادية.
  • الشعور بالانتماء والاعتراف: “أن يُعترف بك” كمرأة تدين، تُكافئ تدينها، تضحي، تكون مرئية، تكون لها مكانتها. كثير من الدراسات تشير إلى أن النساء اللاتي انخرطن في داعش كن يبحثن عن هوية قوية، عن معنى، وجدت في التنظيم ما يُكافِئهن على تدينهن، على استعدادهن للتضحية، كان هناك جرأة في التمرد على الواقع المُكتئب أحيانًا.
  • رابعا: استقطاب الأطفال والمراهقات: صناعة “جيل الخلافة”

أدرك تنظيم “الدولة الإسلامية” أنّ استدامة مشروعه مرتبطة بإعادة إنتاج ذاته عبر أجيال جديدة، لذلك منح أولوية كبرى لاستقطاب الأطفال والمراهقين، خصوصًا من الفئات الأكثر هشاشة نفسيًا واجتماعيًا. هذه الاستراتيجية مثّلت نقلة نوعية في مسار الحركات الجهادية، إذ لم تقتصر على التجنيد اللحظي للمقاتلين، بل هدفت إلى بناء “هوية جهادية ممتدة” عبر ما يمكن تسميته بـ تأميم الطفولة داخل خطاب العنف. ويمكن تحليل هذه السياسة في مستويات متعددة:

أ. التلاعب بالبراءة والتنشئة المؤدلجة

أطلق التنظيم برامج ممنهجة مثل أشبال الخلافة التي مزجت بين التربية العقائدية ذات النزعة السلفية الجهادية والتدريب العسكري المبكر. لم يكن الهدف إكساب الأطفال مهارات قتالية فحسب، بل غرس تصور كوني يجعل من الموت “شهادة”، ومن العنف “قربى إلى الله”. هذه المقاربة تسعى إلى محو الحدود النفسية بين الطفولة والجندية، وتحويل الطفل من كائن قابل للحماية إلى أداة في مشروع الدمج الجهادي.
وهنا يظهر ما يمكن تسميته بـ تديين الطفولة حيث تُستثمر آيات وأحاديث تُقدَّم بقراءة انتقائية لترسيخ قيم الطاعة، الولاء، والفداء.

ب. الرموز الثقافية والألعاب الرقمية

اعتمد التنظيم على استراتيجيات تكنولوجية حديثة تراعي حساسية الجيل الجديد المولع بثقافة الصورة والألعاب الإلكترونية. من خلال إنتاج مقاطع فيديو عالية الجودة تحاكي ألعابًا مثل Call of Duty أو Counter-Strike، قدّم التنظيم الحرب كـ”مغامرة بطولية” يسهل أن يتماهى معها المراهق. هذه الرموز الثقافية تُحوّل العنف من واقع مرعب إلى تجربة جمالية ممتعة، مما يذيب الحاجز النفسي بين اللعب والقتل.
كما أنّ بث مشاهد لأطفال ينفذون إعدامات أو تدريبات عسكرية منح المتابعين ــ خاصة في الغرب ــ صورة مشوهة لكنها مؤثرة عن “الطفل المقاتل”، تعزز الإحساس بالانتماء لدى المراهقين الباحثين عن دور استثنائي.

ج. الآليات الرقمية والبعد العاطفي

شكّلت المساحات الافتراضية (غرف الدردشة، تويتر، فيسبوك، تليغرام) فضاءً حيويًا لاستقطاب المراهقات خصوصًا. فغياب الرقابة الأُسرية مكّن المجندين من بناء علاقات شخصية قائمة على التأثير العاطفي (إيهام الفتاة بالحب، الحماية، أو الانتماء إلى مجتمع “نقي”). هذا البعد السيكولوجي يتقاطع مع نظريات الهوية، حيث يُقدَّم الانخراط في مشروع الخلافة كسبيل للتحرر من الاغتراب أو التهميش الاجتماعي.
وقد أثبتت دراسات غربية (مثل بحوث Bloom, 2015 و Cook & Vale, 2018) أن المراهقات كنّ أكثر عرضة لهذا النمط من التجنيد، إذ يلتقي فيه الوعد الروحي بـ”الخلاص” مع الوعد العاطفي بـ”الانتماء”.

د. الرهانات الاستراتيجية

إن إدماج الأطفال والمراهقات في المشروع الجهادي لم يكن مجرد ظاهرة عابرة، بل عكس تصورًا استراتيجيًا يروم:

  1. ضمان الاستمرارية التنظيمية عبر صناعة “جيل الخلافة”.
  2. كسر المعايير الدولية لحقوق الطفل عبر فرض نموذج بديل من التربية الجهادية.
  3. إنتاج صدمة دعائية تخاطب الرأي العام العالمي، وتظهر “التزام” التنظيم بخلق مجتمع متكامل.
  • خامسا  أدوات تجاوز المكان عند  داعش
  1. الهجرة الافتراضية

لم تعد الهجرة، في نموذج “داعش”، مجرد انتقال مادي من بلد الإقامة إلى “أرض الخلافة”، بل تحوّلت إلى عملية متدرجة تبدأ في الفضاء الرقمي. فقد اعتمد التنظيم على منصات التواصل الاجتماعي (تويتر، فيسبوك، تليغرام) باعتبارها “ممرات أولية” للانتماء، حيث يعيش الفرد تجربة الانغماس في خطاب التنظيم، والتواصل مع أعضائه، والانخراط في النقاشات الشرعية والوجدانية، قبل التفكير في الرحلة الفعلية.
هذا التحول يعكس ما يُعرف في الأدبيات بـ”الجهاد الشبكي حيث يتجاوز الانتماء حدود المكان ليتأسس على روابط رقمية تعطي للفرد شعورًا بالاندماج في جماعة عالمية. ومن هنا، يظهر مفهوم “المهاجر الافتراضي” الذي يتشكل وجدانه وهويته الجديدة عبر العالم الرقمي، ويصبح أكثر استعدادًا نفسيًا وشرعيًا للانتقال المادي.

  1. تسهيل الرحلة

إحدى العقبات التقليدية أمام الانضمام إلى الحركات العابرة للحدود هي صعوبة الانتقال الجغرافي، خاصة في ظل الرقابة الأمنية والاختلافات الثقافية. غير أن “داعش” نجح في بناء شبكات لوجستية منظمة، تتركز أساسًا في تركيا، حيث تحوّلت مدن مثل غازي عنتاب وأورفا إلى “محطات عبور” نحو سوريا.

هذه الشبكات كانت تتكون من وسطاء محليين (“المرشدين” أو facilitators)، يتولون استقبال المهاجرين الجدد، توفير أماكن آمنة للإقامة المؤقتة، ثم مرافقتهم عبر الحدود نحو مناطق سيطرة التنظيم. هذا العنصر جعل الانتقال المادي أقل خطورة، وساهم في كسر الحاجز النفسي، خصوصًا لدى النساء والمراهقين الذين لم يملكوا خبرة في السفر أو التعامل مع بيئات جديدة.

الرحلة نفسها كانت تُصوَّر في بعض الأدبيات الدعائية كـ”رحلة حج” نحو أرض الخلافة، ما أضفى عليها قدسية مضاعفة وجعلها أقل إثارة للتردد.

  1. إعلام عابر للحدود

لعب الإعلام دورًا حاسمًا في تجاوز القيود الجغرافية. فقد استثمر التنظيم في الإنترنت باعتباره فضاءً بلا حدود، قادرًا على إيصال رسائله من الموصل والرقة إلى باريس ولندن والدار البيضاء في اللحظة نفسها.

إصدارات مثل دابق (بالإنجليزية) ورومية (بلغات متعددة) شكلت منصات دعائية تستهدف جمهورًا عالميًا، كما أن المقاطع المصوّرة عالية الجودة صُمّمت بطريقة تُخاطب خيال الشباب المتأثر بثقافة الصورة والألعاب الإلكترونية.

هذا الطابع العابر للجغرافيا ألغى فكرة “المسافة” بين المركز (أرض الخلافة) والهامش (بلدان الشتات)، حيث أصبح الانخراط ممكنًا عن بُعد: قد يشارك الفرد بالدعاية، أو بجمع الأموال، أو حتى بتنفيذ عمليات محلية باسم التنظيم، دون أن يغادر بلده. وهنا يتجلى ما يسميه بعض الباحثين “اللامركزية الجهادية”، التي جعلت المشروع الداعشي يتجاوز حدود الدولة التقليدية إلى فضاء سيبراني عابر للقوميات.

الخلاصة:
نجح داعش في كسر حواجز المكان واللغة والثقافة لأنه لم يقدّم نفسه كتنظيم محلي محدود، بل كـ”مشروع عالمي” يستخدم أدوات عصرية (الترجمة، الإعلام الرقمي، الرومانسية الدعائية) في مخاطبة احتياجات نفسية واجتماعية مختلفة. النساء والأطفال والمراهقات لم يُعاملوا كملحقين بل كركائز لمستقبل “المجتمع الداعشي”، وهذا ما ميّزه عن التنظيمات الجهادية السابقة التي همّشت هذا النوع من التجنيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *