وجهة نظر

بوليميك “النفايات”.. ماذا وراء الأكمة؟!

يذهب المثل القائل “وراء الأكمة ما وراءها” إلى إفشاء المرء على نفسه أمرا مستورا؛ وهو مثل ينطبق على كثير من مدخلات البوليميك الذي خلفته النفايات الإيطالية؛ إذ كشفت هذه القضية بعضا من المستور حول لوبيات الصناعة في البلاد، وزادت من تعرية كثير من الأقلام والأفواه التي تغرف من معين “الافتراء المكعب” -أصلا- و”الترويج المغرض” -تبعا- بوعي أو بغير وعي، وأضافت لقائمة المجتمع المدني جمعيات جديدة لا تتحرك إلا حين ترى من الأعلاف ما يسمن جوع مسيريها مع اقتراب COP22 وبروز الحاجة لتسجيل الحضور المعنوي والمادي، في تواطئ مكشوف مع “لوبيات العهد الجديد” (زيرو-ميكا نموذجا)، كما أظهرت اختلالات في التدبير الرسمي لقطاع البيئة، رغم كل ما أصبح يحظى به هذا القطاع الحيوي من اهتمام متزايد، تشريعا وتخطيطا وممارسة.

إن هذه المحاولة في التنقيب عن خلفيات ودوافع البوليميك المثار حول ما أصبح يعرف بقضية النفايات الإيطالية لا تتغيى إثارة جدل جديد حول الموضوع، بقدر ما تستهدف فتح نقاش متبصر بالموضوعية والعلمية والواقعية حول هذه القضية، قد يفيد الرأي العام في المقام الأول، ثم -في مقام ثان- كثيرا من الخائضين الذين ينتظرون تسجيل المواقف والتورط في اجترار الأحكام المسبقة بناء على معطيات مزيفة أو غير دقيقة؛ وتجربة البعض مع الانقلاب التركي مازالت طرية وشاخصة للعيان!وهي كافية لمن أراد أن يتعظ أو يكسب في تحليله خيرا!

1. مسلسل الأحداث بالتقسيط !

وحيث وجب الانتباه لتطور مسلسل الأحداث؛فإنه وباختصار شديد، تلخصت الأفكار الأساسية للأخبار التي صنعت بوليميك “النفايات”، في جولتها الأولى،كما يلي:

أ. “اكتشاف” إحدى الجمعيات لنفايات معبأة “بإحكام” دخلت عبر ميناء مغربي (آسفي)؛

ب. النفايات “المكتشفة” هي نفايات خطيرة تخلصت منها إيطاليا (هكذا مجانا) بعد أن تسببت في أضرار بيئية وصحية لمواطنيها، فيما ذهبت بعض المواقع الإلكترونيةبعيدا في الترويج بأن النفايات ذات طابع نووي !!

ب. النفايات الإيطالية المتخلص منها، وجدت طريقها للمغرب قصد “الدفن”، وهو ما أوحى للقارئ بأن المغرب أصبح مكبَّا سريا لأزبال إيطاليا الخطيرة (الشيء الذي من شأنه أن يخلف استياء طبيعيا لو كان الخبر فعلا حقيقيا !) ؛
ج. النفايات الخطرة المكتشفة والموجهة للدفن،مستوردة من طرف الحكومة المغربية في إطار صفقة سرية مع الحكومة الإيطالية ؛

د. في غياب رد فعل رسمي سريع، أصبح الخبر/المُقَبـِّـلة -في وقت قياسي-وجبة دسمة، ومصحوبة في أحيان عديدة بمملحات أو تحْليَات لا تخلو من مذاق المزايدة(شركة النقل صهيونية، وجود مافيا إيطالية على الخط، استفادة زبناء وزيرة البيئة… الخ)؛ وأمام هكذا وجبة سال لعاب (مداداً وصوتاً وصورةً) كل من أراد تسجيل الحضور بعلم أو بغير علم!

وهكذا، أصبح الرأي العام أمام قضية (1) “اكتشاف” نفايات (2) خطيرة، (3) موجهة للدفن بالتراب المغربي(4) بشكل سري، (5) وباتفاق وسبق إصرار حكومي. لكن ما اتضح لاحقا،هو أمر آخر مختلف تماما عن ادعاءات/افتراءات الجولة الأولى؛ وأمام الخروج المتأخر للوزيرة المعنية بالقطاع، بدأت جولة ثانية من تكييف الأخبار وشخصنة القضية وإسقاطها -كما عادة جميع القضايا المفتعلة- في حديقة رئيس الحكومة. فماذا اتضح؟ وكيف تم تحوير النقاش مجددا؟ لقد تبين أن:

أ. النفايات”المكتشفة” كانت تدخل البلاد قبل أزيد من عقد من الزمان ولم تحرك أي جمعية ساكنا منذ ذلك الوقت!!فما تم اكتشافه –حقيقةً- هو أن الجمعية المعنية نفضت الغبار عن نفسها أو نُفض عنها مع اقتراب COP22. وما رُوِّج على أنه “اكتشاف” أضحى حجة على كل من ابتلع الطعم وأشاع الخبر دون تثبت في أحسن الأحوال، وعلى كل من قصد إشاعة “الاكتشاف الموهوم” لسبب أو لآخر في أسوئها.

ب. النفايات المستوردة هي نفايات معالجة (يطلق عليها اختصارا لفظ RDF)، مشتقة من النفايات العضوية الصلبة القابلة للاحتراق (نفايات منزلية أساسا: أوراق، أثواب، بلاستيك، أخشاب… الخ)، وهيعبارة عن طاقة بديلة(Alternative Energy) مستعملة لأغراض إنتاج الطاقة ذات الاستعمال الصناعي منذ أزيد من عقدين في مجموعة من الدول، بما فيها دول من العالم الثالث[1].

وأمام هذين المعطيين، تطفو على السطح قضية أخرى من مستويين، لابد من الإشارة إليهما قبل استجلاء باقي النقاط: المستوى الأول،يتعلق بتعدي بعض الأشخاص والهيئات على الانتساب للبيئة، باعتبارها موضة للعصر -من جهة- تستقطب في بلادنا كل من هب ودب، وليست مؤطرة من طرف المتخصصين (وليس المتخصصين في كل شيء)؛ ومن جهة أخرى، كشكل مستجد من أشكال “لَهْمُوز” التي تسمح بتوزيع مجالات الانتشار المدني والاستفادة من الدعم والسفريات بعدما تكدست واكتظ الواقع باختصاصات أخرى (حقوق الإنسان، تنمية بشرية…). أما المستوى الثاني،فيتمثل في وجود مقاولات صحفية وأقلام شبه-صحفية وأخرى منتحلة للصحافة، لا تتبنى الكتابة المتخصصة (باستثناء البوليميك طبعا)؛ إذ يكاد يكون السواد الأعظم من “المدونين” و”المحللين” و”الصحفيين” وأشباههم يتحدثون في جميع المواضيع، من تفاعلات سياسية ومعطيات اقتصادية وتظاهرات ثقافية وأحداث اجتماعية وظواهر علمية، سواء كانت في الساحل والصحراء أو الشرق الأوسط أو أمريكا الجنوبية أو آسيا الوسطى أو القطب الشمالي.. باختصار، الكل يفهم في كل شيء حيثما كان !!!

وفي سياق المعطيين أيضا يطرح السؤال الموضوعي: لماذا لزمت الجهات المؤججة للقضية الصمتَ بعدما ظهرت حقيقة النفايات؟!ولماذا لم تخرج على الرأي العام -كما خرجت ابتداء- بالتوضيحات التي قد تطمئن جمهورا من المواطنين؟!إنمن شأن استيضاح ما بقي من النقاط/الحقائق أن يكشف عن جزء من الجواب؛ فقد تبين أيضا أن:

ج. الجهة المستوردة لتلك النفايات ليست الحكومة المغربية التي تم استهدافهابشكل مباشر منذ تأجيج القضية؛ وإنما شركات الإسمنت هي التي استوردت -وكانت تستورد- شحنات الـRDF(بالعملة الصعبة وليس مجانا) قصد تخفيض كلفة الإنتاج في إطار اتفاقية مع الدولة يعود تاريخها لأزيد من12 سنة !! بل إن بعض الشركات كانت -وربما مازالت- تستورد أيضا عجلات مطاطية لذات الغرض (استخلاص الطاقة بأقل تكلفة)، وهي أشد خطرا من النفايات المنزلية موضوع “البوليميك”.

وإذا ما أضفنا لهذا المعطى تصريح الوزيرة “الحيطي” بأنها -منذ مجيئها على رأس الوزارة- ألزمت شركات الإسمنت بالتقيد التام بمقتضيات احترام البيئة، وبل وتم إيقاف بعض الواردات لحين استكمال دراسات الأثر (Etudes d’impact)؛ فإن التساؤلات تتضخم أكثر فأكثر حول احترام الشركات المعنية للمقتضيات القانونية قبل تاريخ تحرك الوزيرة (وهي لم تعين إلا قبل سنتين تقريبا)، وأين كانت تلك الأقلام والأفواه التي لم تتحرك “كبدتها” على المواطن المغربي إلا في هذه اللحظة مع اقتراب 7 أكتوبر (موعد الانتخابات) و7 نونبر (موعد COP22) !! أين كانت أساسا حين تم توقيع الاتفاقية؟ وحين كانت الأطنان “المطنطنة” تنزل بآسفي؟ وحين كانت تحترق دون رقيب في شركات الإسمنت طيلة 10 سنوات؟!! لقد كان حريا بالذين يتظاهرون بالبكاء على تحويل آسفي إلى مزبلة إيطالية أن يتحركوا ضد كل مظاهر العبث التي تستهدف المسفيويين -والمغاربة عموما- بما في ذلك تهريب مشروع ضخم من نفس المدينة نحو جهة أخرى !! وصدق أحد أبناء المدينة إذ صدح في وجه “راكبي الأمواج”ممن يتواطؤون على قتل الميت ويمشون في جنازته، أن “أزبال إيطاليا خير من وجوه ستشاركنا الوقفة” التي تقررت في 10 يوليوز (2016). وبذلك يتضح شيء -وربما أشياء- من لماذا بقيت تلك الجهات مشلولة ومبتلعة لسانها إلى هذا الوقت بالذات!

د. أخيرا وكما اتضح آنفا؛ فإن النفايات كانت موجهة للحرق -وبالتالي إنتاج الطاقة- وليس للدفن! وبذلك يكتمل نسف المضلع الخماسي للخبر/الأكذوبة الذي أجج القضية من أول وهلة! ولتبدأ جولة ثانية من تحوير النقاش والنزوع نحو مهاجمة شخص الوزيرة (البوطوكس، الرجوع لـ22 ساعة، مطالبة بنكيران بالإقالة، إبعاد الوزيرة من COP22، صفقات مشبوهة… الخ)، ومن خلفها ما سمي بـ”الوزير الوصي” (عبدالقادر اعمارة)؛ ليتوارى إلى حين -وفي تناقض ممجوج- خطاب هيمنة “البيجيدي” على الحكومة/الدولة ودعوة الوزير إلى فرض وصايته على الوزيرة! فيما ذهبت تحليلات متهافتة أخرى إلى أن “اعمارة” هو من سرب الوثائق انتقاما من الوزيرة ومن استبعاده من COP22… وهكذا تحولت قضية كان من الممكن أن تكون علمية، إلى قضية مغلفة بلبوس بيئي وصحي بعيدا عن المعطى الحقيقي المتمحور حول شركات الإسمنت؛ ثم أصبحت قضية سياسية في مرمى الحكومة ورئيسها، وما فتئت أن تحولت إلى قضية تصفية حسابات إيديولوجية/حزبية مع أشخاص بعينهم!ألا قبح الله التخلف!!

2. ماذا وراء الأكمة؟!

إن “البوليميك” المثار حول قضية النفايات لا يجب أن يحجب على كل منتسب -أكاديمي أو جمعوي- للبيئة، أو مدافع عنها، القضايا والأسئلة الموضوعية المتعلقة بالممارسة البيئية عموما، وتلك المتعلقة بقضية النفايات -موضوع الجدل- على وجه الخصوص، بكل ما يترتب عنها من إشكالات اجتماعية واقتصادية، وبكل ما تتيحه من فرص للتطور والتنمية المستدامة. وههنا، لابد من الإشارة -ولو بشكل سريع- لمجموعة من المعطيات التي تهم الرأي العام،والمتعلقة أساسا بجوانب التصنيع والتدبير البيئي للنفايات، مع إسقاطها علىالسياق المغربي ذي الصلة:

أولا:تطرح النفايات إشكالات عميقة على المستوى العالمي، تتعلق بتدبير مخاطرها المباشرة (كما ونوعا: المعادن الثقيلة، غازات الدفيئة… الخ) وغير المباشرة (خصوصا تلوث الهواءوالفرشة المائية والتربة)؛ ولذلك تم إيجاد مجموعة من الحلول لتحويل “تهديدات النفايات” إلى فرص تتقلص معها المخاطر وتفتح آفاقا جديدة للتنمية المستدامة؛ وتتمثل إحدى هذه الفرص في استعمال تقنيات خاصة لإنتاج الطاقة وفق مبدأ “waste-to-energy”؛ حيث تستخلص الطاقة من النفايات -مبدئيا- من خلال تقنيتين بارزتين: إما عن طريق التخمر (إنتاج غاز الميثان من طرف بكتيريات حيلاهوائية تتغذى على النفايات المتحللة) أو عن طريق حرقها المباشر (Incinération).ويعتبر هذا المجال حقلا خصبا للاستثمار يرجع بأرباح هائلة لا يمكن تصورها إلا من زاوية تخيل شاحنات النفايات كعربات نقل الأموال وليس نقل الأموات!

ثانيا: في المغرب، مازال موضوع النفايات يطرح نقاش “التهديد” أكثر من جوانب “الفرص”، رغم الخبرات الكبيرة المراكمة والتقنيات العديدة المتاحة في هذا المجال. فمتوسط النفايات اليومية يزيد بقليل عن نصف كيلوغرام للفرد في اليوم (0.53Kg/hab/j)، مع فوارق كبيرة بين المدن والقرى، وهو ما يخلف في المجموع حوالي 18 ألف طن من النفايات يوميا، تشكل فيها النفايات القابلة للتخمر حوالي 65% كمتوسط (وحوالي 10% ورق، و9% بلاستيك و4% معادن)، يتوزع غالبها على مكبات عشوائية (حوالي 300)، فيما برنامج تعميم المراكز المراقبة (CET) وتأهيل المكبات لايزال متعثرا؛ وهو الأمر الذي يستتبع الإشارة إلى مجموعة من المعطيات المرتبطة بالجانب الطاقي:

أ. تطرح النسبة العالية للمواد القابلة للتخمر (65%) إشكالية استغلال النفايات المغربية كمحروقات بديلة، حيث لا تتعدى قدرتها الحرارية 1000 كيلوكالوري/كلغ (1000Kcal/Kg). وبالمقارنة مع النفايات الأوروبية؛ فإن هذه الفئة من النفايات لا تتعدى 25%، وتأتي في مرتبة ثانية خلف الورق (بنسبة 30%) ومتبوعة بالبلاستيك (10%)؛ وهو ما قد يبرر استعانة جزئية بالنفايات الأوروبية وليس استيرادا كاملا للحاجيات المحلية، في أفق تأهيل القطاع وطنيا على مستوى الإنتاج والاستغلال (توفير شروط الاستعمال السليم لهذا البديل الطاقي) ؛

ب. يطرح الحجم الكبير للنفايات بالمدن والقرى المغربية معضلة كبيرة لمسيري الشأن العام (المحلي تحديدا)، لاسيما من جهة كلفة جمعها وطمرها، في ظل ثقافة جماعية لا تؤمن بالفرز في المصدر/البيت ولا بالجمع الدوري (الاقتصار على 3 مرات في الأسبوع مثلا)،ما يجعل تخفيض الحجم بحرقها (في العشوائيات والمراكز المراقبة على السواء) أسهل الطرق للتخلص منها، دون التفات للفرص التي تتيحها (توليد الطاقة، إنتاج أسمدة عضوية… الخ)؛ وهو ما يزيد الإشكال تعقيدا في جوانبه البيئية والصحية والاقتصادية على مستوى النقاط الكثيرة لتجميع النفايات، ناهيك عن المناطق الصناعية المعنية. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن تأهيل المكبات غير المراقبة يمكن أن ينتج طاقة بحجم ما تنتجه محطة نووية في اليابان وبمخاطر أقل بكثير! فلنتخيل حجم الإهدار الطاقيفي ظل عشوائية التدبير على مستوى الجماعات المحلية والرؤية القطاعية !

ج. رغم التأخر الكبير الذي يعرفه تدوير (إعادة استعمال) النفايات في المغرب؛ فإن بعض الدراسات التقديرية (بما فيها معطيات البنك الدولي) تشير إلى أن مدخول المشتغلين بإعادة التدوير الخام في المغرب يتراوح بين 120 و250 درهم للفرد في اليوم (علما أن نسبة 17-23% من المواد القابلة للتدوير تضيع)، وهو ما يمكن أن يغطي جزئيا نفقات استيراد الوقود البديل (توفير العملة الصعبة) من خلال تصدير ما تم تدويره أو استعمال ما يصلح منه مباشرة في أفران الحرق. وهنا يطرح إشكال توسيع وعاء استفادة الأفراد (في إطار تعاونيات أو مقاولات) من هذه العملية من خلال حزمة من الإجراءات القانونية وتوفير البنيات التحتية، بما يحفظ كرامة العاملين العشوائيين بالقطاع، ويوفر مزيدا من فرص الشغل المستدام، ويضمن السلامة الصحية والبيئية للمغاربة. وههنا لا يخفى القصور الرسمي في تدبير القطاع وتفويت فرص استثمارات/منافع هامة مقابل خسائر عديدة في ظل استمرار التأخرالمشهود؛ وبشكل لا يمكن موازاته -في سياق المقارنة- إلا مع الخسائر التي تتكبدها صناديق التقاعد أمام تأخير إصلاحها!

ثالثا: إذا كان قطاع النفايات بالمغرب يتيح مجموعة من الفرص رغم إشكال التأهيل المحدود الذي يشهده القطاع؛ فإن ذات السؤال يجب طرحه على شركات الإسمنت التي تستغل النفايات كوقود بديل؛ حيث لا يمكن لمسعى تغطية الحاجيات المتزايدة للسوق الداخلي والخارجي وجني مزيد من الأرباح أن يغطي على الجوانب التقنية؛ ومن حق المغاربة -تبعا لذلك- أن يقلقوا من طريقة استخلاص الطاقة من هذه النفايات وإن كانت ستضر ببيئتهم وتهدد صحتهم؟علما أن الأضرار حاصلة بشكل يومي من خلال الحرق العشوائي للنفايات، وهي تنتظر من يوقف شر شراراتها لا من يزيد في أوارها!
فمن المعلوم أن حرق هذه النفايات، لاسيما في غياب المراقبة، يترك مخلفات وسموم خطيرة أبرزها الزئبق والرصاص والكادميوم (معادن ثقيلة)، فضلا عن غاز الديوكسين(Dioxine) والفورونات (Furanes) والجزيئات الدقيقة (الهباء: Nanoparticules) التي قد تحملها الرياح لمسافات بعيدة، وكلها تتسبب في اضطرابات مناعتية وهرمونية وعصبية، كما تتسبب في السرطان (خاصة سرطان المريء/الحنجرة) وإتلاف مجموعة من الأنسجة (بما فيها الجنينية)؛ إما من خلال التعامل المباشر معها (استنشاقا وامتصاصا) أو من خلال التلوث الغذائي عبر التربة والمياه.وهو ما يفرض، في حالة مصانع الإسمنت، استعمال تقنيات ترفع من درجة الحرارة فوق 1200-1450 درجة مئوية (تصميم البناء، التدعيم بالوقود، تصفية الهواء، معالجة الرماد…)؛ حيث الإبقاء على درجة حرارة 800-950 درجة مئوية المعمول بها في تلك المصانع يتسبب في تشكل كبير لمختلف الملوثات المذكورة. وبذلك لا يمكن تفادي الآثار السلبية للنفايات المعالجة إذا استعملت كوقود بديل (بشكل تام) بوجود تقنيات كلاسيكية، وإنما يمكن استعمالها كوقود مُكمِّل/مُدعِّم (بشكل جزئي) مع توظيف التقنيات الحديثة واليد العاملة الخبيرة.وهي استثمارات ضخمة قد لا تقارن كلفتها مع المردودية على المدى المتوسط، خاصة في ظل توفر البلاد على مصادر طاقات بديلة (شمسية وريحية) يمكن استغلالها دون مخاطر، وفي سياق الاحتياط المستدام الذي تذهب إليه بعض الآراء والاجتهادات العلمية من أن الطاقة المستخلصة من الـRDF تعتبر غير فعالة بالمقارنة مع تقنية التدوير التي تحفظ الطاقة الكامنة في المواد وتسهل إعادة تصنيعها دون بحث عن مواد جديدة في الطبيعة (الاستهلاك المستدام)[2].

ورغم التطمينات التي تقدمها الوزيرة بخصوص المراقبة الصارمة والمحايدة، وتوفر المصانع المعنية على التقنيات اللازمةلاستغلال الـRDF، وخضوع استيراد هذه النفايات لاتفاقية “بال” (Bâle)؛ فإن لوبيات الاقتصاد التي تسعى للربح لا يمكن ائتمانها على صحة وسلامة المواطنين، خاصة في ظل التشريعات البيئية الهزيلة نسبيا وغياب “مدونة بيئية” تجمع شتات القوانين وتملأ الثغرات التي تستغلها مختلف الصناعات، والتي لم تسلم منها حتى الدول المتقدمة مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ويكفي أن ننظر حولنا وما يجري لمحاربة “الميكة” كمادة بلاستيكية خطيرةباستهدافرواج البسطاء؛ في وقت لا يحرك أحد ساكنا تجاه شركات المياه المعدنية والمشروبات الغازية التي تملأ قاروراتها البلاستيكية الأسواق! وقد أحسنت الحكومة صنعا حين منعت استعمال الشحنات المستوردة وأوقفت استيراد مزيد من النفايات إلى حين تأهيل القطاع واستكمال الدراسات العلمية والاستجابة للمواصفات التقنية التي تضمن سلامة البيئة والحفاظ على صحة المغاربة؛ في انتظار معالجة الإشكالات البنيوية للاستدامة البيئية والتي ترتبط بقضايا هامة من قبيل الأمن الغذائيوالأمن الطاقي، بكل انعكاساتها الإيجابية المتوقعة على رفاه المواطنين وعيشهم الكريم.

*************
(*)دكتوراه في علوم الحياة والبيئة – ماستر الإيكولوجيا والتدبير البيئي.
[1]HalimehjaniEZ et al.,Utilization of Refuse-Derived Fuel (RDF) fromUrban Waste as an Alternative Fuel for CementFactory: a Case Study. International Journal of Renewable Energy Research.May 2016, 2(2): 702-714.
[2]Shah D et al., Understanding Refuse Derived Fuel. Global Alliance for Incinerator Alternatives (GAIA), October 2013: 12p.