منوعات

اليحياوي يكتب: المجال العام وشبكات التواصل الاجتماعي

لو كان ثمة من “فضل” أولي يذكر لشبكات التواصل الاجتماعي (الشبكات الاجتماعية في الخطاب التداولي السائد)، فيبدو أنه كامن بالأساس في قدرتها الهائلة على ضمان مبدأ ديموقراطية الوصول والنفاذ إلى المعلومات، ثم في قدرتها على تجاوز احتكار المعلومة من لدن الدولة، والمعرفة من لدن النخب “العالمة”، ثم في خاصية المرونة التي تمنحها الطبيعة العلائقية الأفقية لبنيتها التنظيمية، ثم في فسحها للمجال واسعا أمام الجماهير للإسهام في مناقشة قضايا الشأن العام، إعمالا لمبدأ أن من يملك المعلومة يملك السلطة، أو جزءا معتبرا منها على الأقل.

إن شبكات التواصل الاجتماعي (الفايسبوك والتويتر واليوتوب تحديدا) قد أضحت وسيطا لا مندوحة عنه حقا، ليس فقط كونها خلصت الفرد من تراتبية وهرمية وأبوية أدوات التواصل التقليدية، ولكن أيضا لأنها ثوت خلف انبعاث عالم افتراضي، بات الأفراد والجماعات والتنظيمات من بين ظهرانيه فاعلين مباشرين، بمستطاعهم إبداء آرائهم وتصوراتهم عن وفي القضايا الإشكالية الكبرى التي ترهن حاضرهم أو من شأنها التأثير في مستقبلهم.

وإذا كان الجيل الأول من هذه الشبكات قد سهل عملية الوصول إلى المعلومات والأخبار، وأتاح للأفراد إمكانيات إنتاج المضامين وبأشكال تعبيرية مختلفة (منتديات حوار، صفحات خاصة، غرف دردشة، مواقع مدونات وغيرها)، فإن الجيل الثاني من هذه الشبكات (جيل الفايسبوك والتويتر واليوتوب حصريا) قد أتاح منابر واسعة للنقاش والحوار وتبادل الآراء والأفكار، وحشد الجماهير لمناصرة قضية من القضايا، أو لتكوين رأي عام حول القائم منها، أو لإثارة إشكاليات مجتمعاتية لم تكن وسائل الإعلام والاتصال التقليدية تعيرها الاهتمام الكافي، أو تتبرم عنها، أو تمارس الرقابة على من يثيرها ويطرحها للعلن.

لقد بتنا أو نكاد، يقول البعض، بإزاء تكريس جديد، لا بل واستعادة جديدة لنظرية المجال العام التي صاغها الفيلسوف الألماني جورجن هابرماس بداية ستينات القرن الماضي، للتعبير عن ذاك الفضاء الذي يتوسط مجال السلطة والمجال العمومي من جهة، والمجال الخاص للأفراد والجماعات من جهة ثانية، والذي تؤثثه النقاشات والحوارات والتدافعات المرتبطة بقضايا الشأن العام بين طرفي المعادلة: لقد غابت وسائل المحاصرة، واتسع المجال التداولي ليدغم في صلبه الأفراد والجماعات على حد سواء.

وبناء على ذلك، فلو استعدنا مفهوم المجال العام في ظل شبكات التواصل الاجتماعي (بزاوية توظيفه في التحليل أقصد)، فسنقول بأنه هو تلك المساحات الواسعة التي يقوم أعضاء هذه الشبكات من بين ظهرانيها، بتناول ما يستجد لديهم من قضايا وإشكالات، ليخلصوا بموجب ذلك، إلى صيغة ما لكيفية عيشهم وعملهم معا وبشكل جماعي، في الحاضر كما في المستقبل سواء بسواء.

شبكات التواصل الاجتماعي تبدو، بهذه الجزئية، طيعة ومرنة وسهلة الولوج، إذ المشاركة فيها مفتوحة، وكل القضايا قابلة للطرح والمداولة، ومواقف الأطراف المشاركة متساوية في الطرح والتداول، والعملية لا تلتفت كثيرا إلى التمايزات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو غيرها، لا بل قل لا تتخذ من هذه الأخيرة أداة منع أو وسيلة إقصاء.

من جهة أخرى، فقد يكون من مجال الصدفة الخالص أن يتزامن انتشار هذه الشبكات الاجتماعية وانفجار انتفاضات “الربيع العربي”. وقد يكون من مجال الصدفة الخالص أيضا أن تكون فئة الشباب هي الحاملة للواء هذه كما تلك، جزئيا أو بالمجمل العام. بيد أن الذي لا يبدو لنا من مجال الصدفة إنما حقيقة أنه لولا هذه الشبكات لما كان لانتفاضات “الربيع العربي” أن تعرف ذاك الزخم الذي عاينا أطواره بالمباشر الحي، بمصر وبتونس وبليبيا وباليمن، وإلى حد ما بالبحرين والأردن والمغرب.

صحيح أن الشعار الأساس المطروح في حينه، بالشارع كما من على منصات الشبكات الاجتماعية، لم يكن يخرج كثيرا عن مطلب إسقاط النظم القائمة. وصحيح أن العديد من الاحتجاجات الرافعة لذات الشعار، كانت سابقة على هذا المطلب. إلا أن الشبكات إياها قد نجحت وإلى حد بعيد، في تكوين رأي عام لا تختلف مكوناته كثيرا حول طبيعة المطلب إياه، حتى وإن لم يكن لدى هذه المكونات تصور كبير يذكر لما ستؤول إليه تموجات الأمور في المستقبل المنظور، مستقبل ما بعد إسقاط النظم.

ومع أن مطلب إسقاط رأس النظام لم يكن مطروحا دائما في سياق كل الانتفاضات العربية لسنة 2011 وما بعدها، لا في الشارع ولا من بين ظهراني شبكات التواصل الاجتماعي، فإن “الربيع” إياه قد أفرز رأيا عاما حقيقيا، مؤداه ضرورة إسقاط زمرة الفساد والاستبداد المتخفية وراء النظام القائم أو المتدثرة بجناحيه، ثم فتح السبل لانتقال ديموقراطي حقيقي، تكون الكلمة/الفصل فيه محكومة بدستور يعيد توزيع السلطات بإنصاف، ويعمد إلى إعادة تحديد القواعد دون إجحاف.

ليس من المبالغة إذن القول بأن “الرأي العام العربي” في ظل الشبكات الاجتماعية، لن يكون بالقطع هو ذات الرأي الذي عايناه أو عايشناه في زمن الندرة التكنولوجية ومركزية وسائل الإعلام. لقد بات معطى قائما وضاغطا، من غير الممكن التجاوز عليه بهذا الشكل أو ذاك.