وجهة نظر

دراسة ميدانية حول السعادة

السعادة تلك الكلمة الرائعة لروعة معانيها، إنها ذلك الشعور بالرضا والأريحية والطمأنينة..كل إنسان يتطلع إليها ويبحث عنها، يقتفي ما يظهر له من آثارها، ويسعى إلى تحقيقها في حياته. لكن ما حقيقة السعادة؟ وهل لها معايير محددة تقاس بها تكون صالحة لكل الناس؟ وهل معالمها ثابتة أم متغيرة حسب المراحل والأطوار؟ وهل هناك طرق تتحقق بها السعادة؟

1 ـ رأي الدراسات والتقارير الدولية

يُعد التقرير الصادر عن شبكة الأمم المتحدة لحلول التنمية المستدامة حول السعادة العالمية 2016، هو آخر دراسة حديثة تناولت بالتحليل ظروف الحياة اليومية في 157 دولة، وقد تم ترتيبها تنازليا طبقا لأكثر الشعوب سعادة، وقد جاءت الدنمارك الأولى عالميا، تلتها سويسرا في المركز الثاني، ثم آيسلندا في المرتبة الثالثة، والنرويج في المركز الرابع، متبوعة بفلندا وكندا وهولندا، وكان من المُلفت أن تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المركز 13 عالميا في هذا التقرير الذي أثار كثيرا من الجدل.

وكان من أغرب ما جاء في هذا التقرير هو أن يحتل المغرب المركز 90 عالميا، متأخرا عن دول تعاني من اضطرابات وأعمال عنف وصراعات داخلية مسلحة مثل ليبيا التي احتلت المركز 67، والصومال التي جاءت في المركز 76 عالميا.

وقد استند هذا التقرير في ترتيبه للدول الأكثر سعادة على قياس عدد من المؤشرات الفرعية التي تدل على وجود السعادة أو ضعفها، وذلك مثل دخل الأفراد، والفقر ونسبته، الدعم الاجتماعي والرعاية الصحية، مدى انحسار الفساد في المجتمع، مدى الشعور بالحرية الفردية، أوضاع التعليم، وما إلى ذلك من المعايير والمؤشرات.

2 ـ الدراسة الميدانية ومنهجها

تمحيصا لمثل هذه الدراسات والتقارير الدولية، وسعيا وراء الوصول إلى نتائج وخلاصات تكون أقرب إلى واقع الناس، ارتأيت دراسة موضوع السعادة باعتماد دراسة ميدانية بمعية فريق متكون من 15 عضوا، وبلغ عدد المشاركين فيها حوالي 100 مشارك ومشاركة، وقد تم الاشتغال على استطلاع آراء عينات من فئات اجتماعية مختلفة، ومن أصحاب أعمار متفاوتة، ولهم تخصصات دراسية متنوعة…

ويمكن توزيع فئات استطلاع الدراسة إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: تمركزت في صفوف تلاميذ الثانوي التأهيلي، حيث تم استطلاع رأي قرابة 50 تلميذا وتلميذة..
الفئة الثانية: همّت أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي (20) أستاذا وأستاذة، يمثلون تخصصات متعددة: اللغة العربية، الفلسفة، التربية الإسلامية، اللغة الفرنسية، علوم الحياة والأرض، التربية البدنية…

الفئة الثالثة: يمثلها عموم الناس، من صيادلة، وحرفيين، ومتقاعدين، وقدماء جيش التحرير…وتم أيضا استطلاع رأي أطفال في موضوع السعادة وما يُحققها.

وانطلق البحث باستجماع الآراء والمواقف حول مفهوم السعادة وضدها التعاسة، ثم ما الذي يجعل الإنسان سعيدا أو تعيسا؟ وكيف يمكنه المحافظة على استمرارية سعادته؟

وقد تضمنت هذه الاستطلاعات تصريحات تم تدوينها، وأخرى تم تسجيلها، وبعد استجماع كل المعطيات، وتفريغ كل التسجيلات، يمكن إجمال ما تحصّل لدينا من خلال هذه الدراسة الميدانية في ثلاث خلاصات أساسية حول مفهوم السعادة والتعاسة، وثلاث استنتاجات..
1 ـ الخلاصات الثلاثة:

الخلاصة الأولى:

هناك خلط كبير عند البعض في ما يتعلق بمفهومي السعادة والتعاسة، فقد يبدو للشخص المتحدث أن حديثه عن السعادة أمر مسلم واضح لا يحتاج أي بيان، في حين تجد كلامه يحوم حول السعادة ولا يلامسها، ونفس الأمر يُستخلص في مفهوم التعاسة.

الخلاصة الثانية:

عند بحث أجوبة المستجوبين بعد تصنيفها حسب الفئات سواء المتقاربة عمريا أو حتى مستوى اجتماعي، نجد أن مفهوم السعادة عندهم ينسجم مع احتياجاتهم وطموحاته المرحلية، مما يجعل تمثلات السعادة وصورها، قد تختلف تبعا لتبدل الأطوار ونضج الأفكار.

الخلاصة الثالثة:

وجود صعوبة عند البعض في تأكيد حالة السعادة أو التعاسة التي يعيشها، وهذا ناتج عن الخلاصة الأولى التي أكدنا فيها عدم وضوح مفهوم السعادة في الأذهان والمدارك مع ادعاء البعض ذلك، وهذا نلمسه عند التردد في كيفية تحقيق استمرارية السعادة.

2 ـ الاستنتاجات الثلاثة:

ـ الاستنتاج الأول:

عينة كبيرة من الإجابات حول السعادة تربطها بالبعد الديني الأخروي (65 %)، فتجعل من رضا الله وطاعته، والعمل الصالح وما يرتبط به من القيام بالأمور التعبدية وخاصة الصلاة…وكذلك الدعاء والأذكار..مع التركيز أيضا على مسألة رضا الوالدين..أمور أساسية لتحقيق السعادة.

الاستنتاج الثاني:

هناك عينة أخرى وهي الثانية ترتيبا، ركزت في إجاباتها على النجاح في الحياة وتحقيق الأهداف والمتمنيات..مع التأكيد على سلامة القلب من الغل والأحقاد..وهذه الفئة بدورها لا تُبعد البعد الديني في تحقيق السعادة.

الاستنتاج الثالث:

هناك فئة ثالثة اعتبرت السعادة هي مجرد أحاسيس ولحظات عابرة تمر مرّ السحاب، وسرعان ما يرجع الإنسان إلى حقيقة الحياة ومشكلاتها الأساسية، لذلك فهي ربطت توفر بعض الضروريات لكي ينعم الإنسان بالسعادة الحقيقية، كمسألة وفرة الأموال والثروات، وتوفر عمل قار يضمن كسبا وفيرا، وتنعم الإنسان بصحة جيدة، وغير ذلك من الاحتياجات التي تضمن حياة دنيوية هانئة، وبالتالي فإن السعادة عند هذه الفئة ترتبط بالبعد الدنيوي بالدرجة الأولى.

4 ـ نقد وردود

إذا تأملنا المعايير التي اعتمدها التقرير الدولي لتصنيف الشعوب الأكثر سعادة، نجد أنها جافة اعتمدت المعيار المادي الصرف، من دخل فردي، وصحة، واقتصاد، وأمن، وتعليم..دون أن تستحضر البعد الديني أو الروحي مع أهميته في مثل هذه الدراسات.

وحتى لو سلمنا بتصنيف هذه الدول بهذا الترتيب، فإن واقع الحال لا يُقر بذلك، حيث نجد أن هذه الدول الأكثر سعادة في العالم، وعلى الرغم من أنها تتمتع برفاهية ورقي، فإنها تُسجل فيها نسب معتبرة من معدلات الانتحار مثلا، وعلى سبيل المثال فإن ايسلندا تجتل رقم 37 عالميا، وتحتل السويد رقم 58، وتحتل أستراليا المركز رقم 63.

أيضا فإن بعض هذه الدول ترتفع فيها حالات الطلاق بشكل واضح، فالدنمارك تحتل المرتبة الثامنة لأكثر دول العالم في معدلات الطلاق، والسويد في المركز رقم 12، وفلندا في المركز رقم 18…أضف إلى ذلك انتشار حالات الاكتئاب ومظاهر القلق وسائر الأمراض النفسية، مما يُنبئ عن عدم وجود طمأنينة وراحة بال رغم توفرها على ما تريده وتحتاجه.

وإذا رجعنا إلى دراسات أخرى جاءت بنتائج مخالفة لما ورد في التقرير الدولي حول السعادة 2016، نتأكد من أن الاعتماد على المقاييس المادية الجافة وحدها غير كاف لتحديد المجتمعات الأكثر سعادة من غيرها، وإلا فإن دراسة أخرى مثلا أجرتها مجلة النيوز ويك الأمريكية في نسختها العربية سنة 2004 حول أكثر شعوب العالم سعادة، جعلت من دولة كأمريكا في ذيل الترتيب العالمي، وتربعت نيجيريا على رأس اللائحة التي ضمت 65 دولة، متبوعة بكل من: المكسيك، فنزويلا، سلفادور…

وهناك معطى آخر يجعلنا لا نُسلم بنتائج تصنيف الدول الأكثر سعادة بناء على معايير لا تستحضر التوازن بين المؤشرات المادية والمؤشرات الروحية، وهو اختلاف وتنوع طبائع هذه الشعوب، فما يسعد شعبا في الدول الغربية ليس بالضرورة هو ما يحقق السعادة في الدول العربية أو الإفريقية مثلا، ثم إذا بحثنا متطلبات واحتياجات تحقيق السعادة عند أفراد هذه الشعوب، سنجد كذلك اختلافا كبيرا، إذ أن توفر إنسان على بعض المطالب بالنسبة إليه كاف لجعله أكثر رضى وسعادة، في حين نجد آخر على الرغم من توفره على كل الاحتياجات والكمالات لكنه لا يشعر بأية سعادة أو اطمئنان، ولذلك فإن نتائج الدراسات التي تعتمد مقاييس مادية دون غيرها يصعب تعميمها على الشعوب دون مراعاة للفوارق والاختلافات في الطبائع والمشاعر، وحتى في شروط ومتطلبات تحقيق السعادة.

5 ـ على سبيل الختام

بالرجوع إلى استنتاجات الدراسة الميدانية لآراء الناس حول مفهوم السعادة، والتي ربطت تحققها بالبعد الديني، ومقارنتها مع المؤشرات المعتمدة في قياس الشعوب الأكثر سعادة في بعض الدراسات الدولية، نجد أن هناك فارقا كبيرا في النتائج المُستخلصة.

ولعل هذا الاختلاف الأساس كان سببه هو التباين في وجهات النظر حول حقيقة السعادة.

فإذا كانت السعادة في منظور هذه التقارير الدولية تستند إلى معيار مادي محض، فإن السعادة في واقع المسلمين لها ارتباط وثيق بالبعد الديني، لذلك وجدنا أن الفئة الأكثر غالبية من العينة المستجوبة أكدت أن السعادة لا قيمة لها إذا لم ترتبط برضا الله والدار الآخرة، ومن خلاله يُفهم أن الفقر أو عدم التوفر على دخل مادي وافر، أو حتى التمتع بصحة جيدة…كلها أمور قد لا تؤثر على سعادة أفراد الشعوب المسلمة، لأنهم يعتبرون أن عيشهم في الدنيا يعترضه عقبات ومشكلات وابتلاءات…ينبغي تقبلها ومواجهتها بعقيدة سليمة، لأن ذلك ـ حسب عقيدتهم ـ من صميم قضاء الله وقدره، وبالتالي فهم يطمئنون لقسمة الله في الدنيا، وينشدون رضا ربهم، وتحقيق سعادتهم في الآخرة.

وهذا يتوافق مع منظور دين الإسلام لمفهوم السعادة، فسعادة المسلم لا قيمة لها إذا ارتبطت بدنياه مهما حصّل من المطالب، أو بلغ أعلى المراتب، لكن السعيد الحق هو من سعد دنيا و آخرة، قال الحق تعالى: “يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَـأَمَّـا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ(108)”(هود: 105-108).

و لاشك أن ربط السعادة بالبعد الأخروي يجعل الإنسان مُقبلا على دنياه بثقة واطمئنان، رضيّا غير مُضجر، يعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، مُتيقنا أن الحياة دار ابتلاء واختبار، مُلئت تعبا ومكدرات…لذلك كان ربط السعادة بها وحدها ضرب من العبث.

وحاصل القول إن السعادة ليست هي أن يتوفر الإنسان على الاحتياجات ومتطلبات الحياة الدنيوية لوحدها فقط، وإلا لكان الأغنياء هم أسعد الناس، وكل الفقراء هم الأتعس، ولرأينا مجتمعات الرقي والرفاهية انعدمت فيها مظاهر القلق والضجر من الحياة وما فيها، لكن واقع الناس يشهد بعكس ذلك، والعبرة بعموم الواقع وما يؤكده من خلاصات لا بخصوص بعض الدراسات والتقارير الدولية وما جاء فيها من نتائج افتقدت للإنصاف والتوازن.