وجهة نظر

المعادلة الجديدة في تركيا

ما جرى في الليلة الماضية كان درسا تاريخيا قلب معادلة رسخت في ذهن المتتبعين للشأن التركي، ملخصها أن الجيش التركي دائما يحسم المعركة لصالحه في كل الانقلابات السابقة، دائما كان الجيش متدخلا شرسا ليغلق أي قوس يفتح من قلب المؤسسات الدستورية. وها هو اليوم ينزل بدباباته وطائراته معتقدا أن التاريخ سيعيد نفسه، وسيحكم كما كان يحكم من قبل، لكن الواقع الجديد كان صادما. إنه واقع الإنسان الجديد، إنسان ما بعد الربيع العربي، إنسان رأى الحرية وعاشها وتنفسها ليله ونهاره؛ فلا يمكنه اليوم أن يعود عقودا إلى الوراء، إلى عصر الاستبداد وكتم الأنفاس.

الشعب التركي أدرك مكامن الخطر، وصار عنده يقين أن دولته لا يمكن أن تعيش الازدهار والتقدم إلا مع النظام الدمقراطي القادم من صناديق الاقتراع، أما العسكر ودباباته فلم تكن يوما خيارا للنهضة والريادة، بل إنها كانت عبر تاريخ تركيا سبب النكسات والأزمات المتواصلة، ولما تولى حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا أثبت للشعب صواب الخيار الدمقراطي.

لذلك حين رأى الشعب أمنه مهددا، وقُوته مهددا، وكل شؤون دولته مهددة، قرر التصدي للعسكر، وخرج إلى الشوارع، وكان المبادر إلى اعتقال المنقلبين على المؤسسات الشرعية، وكانوا خير عون وخير سند لقوات الشرطة التركية.

ولذلك فإنني أختزل أسباب فشل الانقلاب في أسباب أمور رئيسية:

السبب الأول: نجاح حكومة العدالة والتنمية في تقديم الإجابات الحقيقية عن الأسئلة المحرجة للشعب التركي، في تعليمه واقتصاده وصحته وأمنه ومختلف شؤون حياته اليومية، والأرقام شاهدة ناطقة على ذلك.

السبب الثاني: تأجيل النقاشات المتعلقة بالهوية مثل الحجاب وغيرها، وكانت الغاية من ذلك تفريغ الطاقات والجهود لخدمة الشعب في شؤونه اليومية، وخدمة الصالح العام للبلاد والدفع بها إلى الأمام، ولو أن الحزب انشغل بغير ذلك من أمور الهوية لما وجد الوقت الكافي لتطبيق برامجه الانتخابية.

السبب الثالث: حرص أردوغان على التواصل المستمر مع الشعب، وتوضيح كل ما يحتاج إلى توضيح.

السبب الرابع: إصلاح جهاز المخابرات، وتحقيق التوازن به أمام الجيش، لذلك كان الخطوة التي قام بها رئيس جهاز المخابرات هاكانفيدانمفزعا لكثير من الجهات؛ لما عمل على تجميع أجهزة المخابرات في الخارجية والأمن والجيش تحت راية واحدة هي راية المخابرات العامة.

السبب الخامس: قدرة أردوغان على ضمان بقاء طائفة كبيرة من أبناء الجيش مؤمنين بالتوجه الإصلاحي الذي يقوده بالدولة التركية.

السبب السادس: الإحساس المباشر للشعب التركي ببصمات العدالة والتنمية على حياته، ورؤيتهم المباشرة لبلادهم تنافس على رتب متقدمة في مسار نهضة الدول، وتنفسهم جو الحرية والديمقراطية، وإحساسهم أن صوتهم وكلمتهم صارت سلاحا حقيقيا، وصار لها وزن، لذلك خرجوا للدفاع عن هذه المكاسب.

عموما؛ ما قام به المنقلبون على الشرعية التركية كان مغامرة غير محسوبة، تنم عن جهل حقيقي بمعادلات التاريخ وحركية الشعوب، وما جرى اليوم سيكون درسا حقيقيا يتوقف عنده طويلا كل من يفكر في خراب الشعوب والأوطان.