وجهة نظر

حمورو يكتب: لماذا الانقلاب في تركيا.. وماذا بعد فشله؟

لعل الجديد الذي حملته العملية الانقلابية بتركيا التي أعلن الرئيس طيب رجب اردوغان عن فشلها، ليس هي تحرك بعض عناصر الجيش ومحاولتهم الاستيلاء على مقاليد السلطة، دون أخذ الإرادة الشعبية بعين الاعتبار، وإنما هو سياقها السياسي وطريقة التفاعل معها سواء من خلال ردود فعل مؤسسات الدولة أو نخبها الحزبية والإعلامية وكذا تفاعل الشعب.

– لقد عاشت تركيا طيلة سنوات على وقع الانقلابات والحكم العسكري، وعرفت فيها الديمقراطية والتمكين لسلطة الانتخابات والاختيار عبر صناديق الاقتراع مخاضا عسيرا، تراوح بين المد والجزر، إلى أن وصلت اليوم التحربة التركية مستوى جعلها تُعتبر نموذجا يُحتدى سياسيا واقتصاديا.

– وفي ثنايا هذا المخاض تحولت أشياء كثيرا، سواء على مستوى بنية الدولة، أو على مستوى فاعلية المجتمع السياسي والمدني، أو على مستوى نضج باقي مؤسسات التنشئة المجتمعية، وتوجهها نحو تعزيز المشترك الضامن لاستقرار البلاد المُفضي الى التنمية الاقتصادية كما تشهدها اليوم تركيا.

– هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي، فلم يكن الفاعلون في النظام الدولي يتابعون بعين الرضى تقدم تركيا، وربحها لدرجات على سلم الدمقرطة والتنمية في الآن نفسه، لذلك ظلت مواقف هؤلاء الفاعلون متوجسة من النجاحات المتوالية التي حققتها البلاد بقيادة حزب ينطلق من مرجعيات قيمية وأخلاقية تختلف تختلف بشكل كبير عن القيم المؤطرة لمواقفهم ونظرتهم لمستقبل المنطقة وللعالم بأسره.

– مرجعية حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، المنتصرة للديمقراطية كأسلوب للوصول إلى الحكم، والمعلية من شأن إرادة الشعب، والمنفتحة على القرب الجغرافي والديني والتاريخي، زادت من توجس الفاعلين الدوليين الماسكين بخيوط استراتيجية تدبير جغرفيا العالم واقتصاده، فكان طبيعيا أن تتم معاكسة تركيا وايجاد تناقضات بينها وبين جوارها ومن لهم علاقات القرابة الدينية والتاريخية معها، وتعميق هذه التناقضات إن وُجدت، وهذا ما أشرت عليه محاولات الايقاع بينها وبين دول أوروبية وبينها وبين المملكة العربية السعودية وايران وأخيرا روسيا، وكان الفاعلون الدوليون خاصة الولايات المتحدة الامريكية، يستغلون في كل مرة الأحداث الجارية المتفجرة لأسباب موضوعية أو المصطنعة، لجر تركيا إلى التدخل السياسي أو العسكري من أجل الإلهاء والانهاك، كما حدث وما يزال يحدث في المسألة السورية، أو كما تم استهدافها بعمليات ارهابية متتالية.

– لكن الأتراك أبانون عن وعي كبير بما يُحاك ضدهم وضد الفاعل السياسي الإسلامي عموما من خلالهم، باعتبار التجربة التركية باتت ملهمة للكثير من التيارات الاسلامية في عدد من الاقطار، ومطلب تكسير النموذج كان ملحا، سواء بالمحاصرة في مناطق النفود المفترضة، أو تعزيز التعاون والتنسيق مع خصوم حزب العدالة والتنمية في الداخل لإرباك التجربة ولما لا الوصول الى تفجيرها من الداخل، أو للضغط والابتزاز طلبا لمواقف معينة أو تنفيذا لنصيب في استراتيجة إعادة ترتيب المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط تحديدا.

– وقد برزت التحديات وظهرت التناقضات بشكل أكثر وضوحا بعد موجة الربيع العربي، من خلال دعم تركيا للشعوب العربية التي ثارت ضد حكامها، ورفضها المتواصل للانقلاب العسكري الذي عرفته مصر سنة 2013، وصمودها في الموقف المبدئي الرافض لنظام بشار الأسد وإسنادها للشعب السوري على الرغم من التكلفة المالية والاجتماعية الباهضة، أو استمرار دعمها للسعب الفلسطيني في حقوقه، يتم هذا بموازاة مع استمرار ترسيخ الخيار الديمقراطي داخليا وهو ما عبرت عنه الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها البلاد سواء الرئاسية او البلدية او التشريعية خلال السنوات القليلة الماضبة، استحقاقات انتخابية ومكاسب اقتصادية بالتبع، مكنت تركيا من ربح مساحات إضافية داخل رقعة النفوذ الدولي، ما كان معه طبيعيا جدا أن تزداد حدة حنق الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ضد أردوغان وحزبه وكل الدولة التركية.

– في هذا السياق في اعتقادي ينبغي فهم المحاولة الانقلابية الفاشلة التي عرفتها تركيا ليلة الجمعة 16 يوليوز 2016، سياق عززته شواهد كثيرة منها تلكأ الولايات المتحدة من التعبير الصريح من محاولة الانقلاب فور الاعلان عن بدايتها، والاكتفاء بتصريح ملتبس لوزير خارجيتها جون كيري بقوله إن الولايات المتحدة تتمنى الاستمرارية للحكومة المنتخبة، بما تستبطنه كلمتا “تتمنى” و”الاستمرارية” من دعم ضمني للعملية أو على الأقل وقوف موقف المتفرج المتردد في انتظار حسم السيناريو لصالح الانقلاب.

– وفي هذا السياق أيضا لا يمكن الاعتداد بأية مواقف من الانقلاب الفاشل في تركيا، إلا ما كان في بدايته ولحظة التفاعل معه، أي قبل حسم المحاولة لصالح المؤسسات المنتخبة صاحبة الشرعية في ممارسة السلطة، وهنا نسجل مواقف دول قليلة منها قطر والمغرب اللتان أعلنتا على الفور رفضهما للانقلاب ودعوتهما الى الحفاظ على الشرعية والاستقرار بتركيا.

– يمكن إذن القول بأن تركيا نجحت في صد عدوان حقيقي استهدف ديمقراطيتها ومواقفها من الظلم والاستبداد العالميين، نجاح سيكون له ما بعده داخليا وخارجيا، أما داخليا فمن المؤكد أن الجبهة الوطنية ستزداد توحدا خاصة مع مواقف المعارضة السياسية الرافضة للانقلاب، وأن الانسجام والاتفاق من اجل المصلحة التركية سيتقوى بين مختلف مؤسسات الدولة خاصة المؤسسات التي تمثل الارادة الشعبية ومؤسسة الجيش، ثم ستكون الفرصة أمام الرئيس طيب أردوغان لمواصلة تصفية من يعتبرهم خصوما له خاصة جماعة الخدمة وسيجد الفرصة مواتية لفضح اختراق أعضائها والمشتغلين لصالحها في مؤسسات الدولة، وطردهم منها عن طريق المحاكمة.

– أما خارجيا ففشل الانقلاب في تركيا سيُربك حسابات خصومها، وسيُبطئ في أسوأ الحالات تنزيل مخطط التمكين لإيران في بعض مناطق الصراع، وفق تقسيم ترعاه أمريكا لمحاصرة المد الديمقراطي الذي يتصدره الفاعل الاسلامي بعد الربيع العربي، وسيربك أيضا تقارب وتنسيق النظام المصري مع اسرائيل الخادم للتقسيم المشار إليه.

– وثمة أمل كبير في أن ينعش فشل الانقلاب في تركيا، ويحفز آمال الشعوب العربية في مواصلة معركتها ضد انظمة الاستبداد، ويبت روحا جديدة في محاولات الانعتاق المتواصلة بطرق سلمية، خاصة بتأمل الدور الكبير والمفصلي الذي لعبه الشعب التركي ونخبه الطلائعية في إفشال الانقلاب، وإبطال مفعول تثبيت نظام عسكري كان سيُرجع تركيا إلى الوراء، ويُحبط معنويات من يُتابع بإعجاب مسارها الديمقراطي والتنموي.