مغربة المدينة الذكية.. رؤية للمستقبل

يعتبر مفهوم مغربة المدينة الذكية، مفهوم جديد فهذا الأخير يهدف إلى تكييف نموذج المدن الذكية العالمية مع الخصوصيات المغربية من حيث الثقافة، القيم، البنية التحتية الأساسية والرقمية، والاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والفلاحية والسياسية،… وبالتالي فهذا المفهوم يتمحور حول إعادة هيكلة وتحويل وتصميم وإدارة مدن ذكية، تراعي الهوية المغربية وقيمها وتقاليدها، وموروثها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، مستلهما ومستمدجا روافد الهوية المغربية من الثقافة العربية والإسلامية والحسانية، والامازيغية واليهودية والاندلسية، والاستفادة من التطورات التكنولوجية لتحقيق التنمية المستدامة في أبعادها الخمس، سواء الاستدامة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والاستدامةالاقتصادية، والاستدامة المكانية، وأخيرا الاستدامة الرقمية.
إن الاستراتيجية الوطنية المغرب الرقمي 2030، نابعة من رؤية استراتيجية واستشرافية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، من خلال تحقيق الاستفادة القصوى من الطفرة النوعية التي يعرفها العالم في مجال التحول الرقمي، وأيضا من خلال تقليص الفجوة في المجال الرقمي وتسريع الخطى، وتشجيع صناعة “صنع في المغرب” وجعل المغرب منصة إقليمية قارية في المجال الرقمي من خلال تشجيع تصدير الخدمات الرقمية للقارة الإفريقية ولدول العالم.
إن الاستراتيجية الوطنية المغرب الرقمي 2030، استراتيجية واعدة وطموحة وخلاقة، فهي طموحة من حيث المنهجية التي ستفضي إلى نتائج إيجابية وخلاقة من حيث الوسائل التي تم استعمالها وتطويرها للمضي قدما بالتنمية الترابية بالمغرب.
إن مغربة المدن الذكية، أو بمعنى أصح إنشاء وخلق مدينة ذكية وفق الخصوصية والثقافة المغربية أمر استراتيجي، فالمدينة ليست عبارة عن أنظمة ومسارات، وخدمات، ووووو……، بل هي في حقيقة الأمر روح وثقافة المجتمع وتقاليده، وتاريخه، وحضارته، التي تعاقب عليها الزمن، فأخذ منها ما أخذ، وطور فيها ما طور، وأهمل فيها ما أهمل، وبالتالي فغياب هذه الروح وهذا التاريخ، وهذه الحيوية تجعل المدينة بلا هوية والساكن فيها بلا انتماء.
إن الحديث عن مغربة المدينة الذكية، يحلينا إلى النظر والتحليل في المنظومة المترابطة التالية : فأول حلقة هي الاستشراف وهي الحلقة الأساس في هذا المجال، وبالتالي، فمن أجل تحقيق مغربة المدن الذكية، يجب أن يكون الاستشراف عنصرًا جوهريًا في التخطيط، بحيث لا يمكن فقط، استيراد للحلول العالمية، بل يجب تطوير نماذج مبتكرة تتناسب مع السياق المغربي، والتي تجمع بين التكنولوجيا الحديثة، والتراث الحضاري، والاستدامة البيئية.
فالاستشراف هو عملية تحليل الاتجاهات والتطورات المستقبلية بهدف بناء سيناريوهات متعددة تساعد في اتخاذ قرارات استراتيجية مستدامة، وبالتالي فتوظيف الاستشراف في مغربة المدن الذكية، يكمن فيما يلي :
١. العمل على استباق التحديات الحضرية مثل النمو السكاني، والتوسع العمراني، وتغير المناخ، والأزمات الاقتصادية.
٢. العمل على تصميم استراتيجيات رقمية متكيفة تراعي الخصوصيات المحلية للمجتمع المغربي من حيث العادات، واللغة، والثقافة، والاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية.
٣. تعزيز الأمن المعلوماتي والسيادة الرقمية عبر تطوير أنظمة مستقلة تعتمد على الذكاء الاصطناعي المحلي وتحليل البيانات الضخمة لصنع قرارات ذكية ترابيا.
إن مغربة المدن الذكية، يعتبر نموذج محلي متكامل يسعى إلى تكييف النماذج العالمية مع السياق المغربي بدل استنساخها، ويتحقق ذلك عبر مجموعة من الإجراءات والعمليات منها :
١. العمل على إدماج الثقافة والهوية المغربية في تخطيط الفضاءات العامة، والتصميم المعماري، والخدمات الذكية.
٢. العمل على تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال إشراك المقاولات الناشئة والجامعات المغربية في تطوير الحلول التكنولوجية للمدن الذكية.
٣. العمل على استخدام الطاقات المتجددة وتقنيات البناء المستدام التي تتناسب مع المناخ والموارد المحلية.
وبالتالي فكل هاته الامور يجب استحضارها قبل البدء في خلق وإنشاء المدن الذكية.
فالاستشراف هنا يمثل البوصلة التي تحدد اتجاه التحول الذكي للمدن المغربية من خلال، تحليل التوجهات العالمية في المدن الذكية والتكنولوجيا، وتكييفها مع السياق المغربي بدل استنساخها عذا أولا، وثانيا، بناء سيناريوهات مستقبلية لمتغيرات مثل التوسع العمراني، الرقمنة، الطاقات المتجددة، الأمن الغذائي والمائي، والتنقل الذكي. وثالثا وأخيرا، استباق الأزمات الحضرية مثل الاكتظاظ المروري، التغير المناخي، الضغط على الخدمات الأساسية، وإيجاد حلول وقائية وليست فقط علاجية.
فبدلاً من إنشاء مدن ذكية بمفهوم غربي يعتمد على الرقمنة المطلقة، يمكن استشراف مدينة ذكية مغربية تعتمد على التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة، مع تخطيط عمراني يعزز الهوية المغربية.
أما الحلقة الثانية وهي حلقة التخطيط الاستراتيجي في إنشاء المدن الذكية بخصوصيات المغربية وذلك من خلال الانتقال من الرؤية إلى التطبيق الفعلي، فبمجرد تحديد الاتجاهات عبر الاستشراف، يأتي التخطيط الاستراتيجي لوضع خطط تنفيذية واضحة وفق منهجية قائمة على، تحديد الأهداف الذكية (SMART Goals): مثلا تقليل استهلاك الطاقة بنسبة 40% في المدن الجديدة بحلول 2035، أو تعزيز وسائل النقل الذكية في طنجة بحلول 2030.
ثانيا، التخطيط التشاركي، من خلال إدماج القطاع الخاص، والمجتمع المدني، والجامعات المغربية في تنفيذ مشاريع المدن الذكية.
ثالثا، إرساء الأطر التنظيمية والتشريعية، لضمان سيادة المغرب الرقمية ومنع التبعية المطلقة للتكنولوجيا المستوردة.
والحلقة الثالثة والأخيرة هي حلقة قيادة التغيير باعتبارها ضمان التنفيذ الفعلي للمخططات، فحتى لو كان الاستشراف سليمًا والتخطيط الاستراتيجي متكاملًا، فإن التنفيذ الفعلي يظل التحدي الأكبر، وهنا يأتي دور قيادة التغيير لضمان إدارة التحول الرقمي تدريجيًا، وبالتالي حتى لا يكون التحول الرقمي مفاجئًا يخلق مقاومة اجتماعية، بل يتم وفق نهج متدرج يسهل التكيف معه.
ثانيا، التواصل الاستراتيجي مع المواطنين، عبر برامج توعوية تبرز فوائد المدن الذكية للمواطن المغربي، وتشرح كيف ستغير حياته نحو الأفضل.
ثالثا، تأهيل الموارد البشرية المغربية، عبر تدريب الكفاءات المحلية على إدارة المدن الذكية، مما يعزز من الاستقلالية التقنية ويقلل من الاعتماد على الخبرات الأجنبية.
وبالتالي تكامل المنظومة الثلاثية لتحقيق مدن ذكية مغربية، يستند إلى ترابط عضوي بين الاستشراف، التخطيط الاستراتيجي، وقيادة التغيير، وهو السبيل الأمثل لضمان:
١. عدم استنساخ نماذج غربية جاهزة لا تتناسب مع المجتمع المغربي.
٢. تبني حلول مدروسة وقابلة للتنفيذ تراعي البعد الثقافي، الاقتصادي، والاجتماعي.
٣. إنجاح الانتقال الذكي دون خلق فجوة رقمية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
وبالتالي فالمدينة الذكية المغربية ليست مجرد “مدينة رقمية”، بل مدينة ذكية إنسانية تحافظ على الهوية المغربية، وتدمج الابتكار التكنولوجي في خدمة الرفاهية الاجتماعية، وتحقق استقلالية رقمية مستدامة.
فالهدف من مغربة المدينة الذكية ليس فقط تحسين جودة الحياة، ولكن أيضًا جعل المغرب نموذجًا عالميًا يحتذى به في كيفية دمج التكنولوجيا الحديثة مع القيم الثقافية والاحتياجات المحلية لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
اترك تعليقاً