وجهة نظر

الخط ما له وما عليه

كانت ضغطة على الأيقونة الزرقاء (فيسبوك) كافية لتذكي شعلة التفاؤل في نفسي بعد أن أوشك خبوها. فكانت تدوينات #الخط مفعولها عجيب أخفت بين سطورها ما لم تظهر، فأنتجت الفكرة أن لا أحرم قلمي أجر مساندة إخوانه و شرف الصدح بالحق دفاعا عن #الخط و تتمة لمسار كنت قد بدأته و حربا قد أعلنتها ضد #التبلاص الذي اتسعت رقعته و فاض كأسه من السياسي لتنسكب قطرات منه على بساط الدعوة ليتشربها بعض الجاهلين جاعلين منابر الدعوة ساحة تمرين على #التبلاص استعدادا للمشاركة السياسية، فجاء الخط يسفه أحلامهم. و كان للخط جزيل فضل علينا، أن أغنانا إحصاء مظاهر التبلاص و #البريكولاج و غيرها من ممارسات تبرأ الورع منها، ميسرا علينا صياغة الآتي الذي نحسبه اقتراحا متواضعا نضعه بين يدي إخواننا و رفاق الخط لمحاصرة الوباء الذي فاق تسارعه المعقول.

إن المتتبع لمسار سرطان التنظيمات هذا، يعلم أنه لم يبلغ من الحدة الحد المخيف إلا بعد عهد يحسبه البعض “عهد التمكين” متوهما! عهد حج فيه الناس إلى الحزب أفواجا يخيل لها أنه مصباح علاء الدين الذي يحقق الأحلام السياسية التبلاصية. فكان جدد الوافدين الذين لم يستوعبوا المشروع و لم ينهلوا من رياض مجالس الايمان و يتبركوا ببركتها حوامل و نواقل للفيروس ناقلينه لضعاف المناعة و الممانعة من جيل ما قبل “عهد التمكين” الذين كان تأثيرهم مهملا أمام رجحان مبادىء الخط الذي يسعى البعض إلى جعلها من شواذ الحالات بعد أن كانت أصلا، و كان غيره حشيشا طفيليا استغلظ و استوى ليبلو الله به الصادقين فيفتن صدقهم و يختبر قصدهم و يعلم المطبع من صلب المراس الثابت على الخط.

و لا نقتصر في تحميل المسؤولية على الوافدين الجدد – علما أن منهم صادقين – و لكن حملها يقع مناصفة بينهم و بين #جنود_الخطوط_الخلفية (كما سماهم الشيخ محمد أحمد الراشد)، و هم رجال التربية ب #المشروع_الإسلامي، و أخطاؤهم ثلاثة نوردها ترادفا بترتيب تصاعدي معياره المردود في منحاه السلبي: أول أخطائهم أن رهبوا نخبا أفرزتها محاضن التربية من عمل إسلامي غير الدعوي منه ممثلين إياه بالمسيح الدجال الذي لا طاقة للناس به و لم يبلغ إيماننا مبلغ الإعراض عن جنته و أنه و مهما جاهدنا النفس طاعننا في نقط ضعفنا، و ليس منا إلا نادر لا تزيغ عينيه عن الخط و لا تعميه عن الامتيازات التي تنصب عليه من بين يديه و من خلفه. علما أن برهانهم على هذا استدلال بحالة أو ثلاث، يدخل حكمها في الشاذ، الذي لا يجوز التقعيد عليه استنادا، و ما رواد الخط اليوم إلا من أبناء محاضن التربية و مجالس الإيمان، و الأرجح صحة ضخ هذه الطينة جملة إلى ساحات السياسة، ضمانا لبقاء المبدأ و وضوح الخط، و حفاظا على المشروع الذي قل متشربوه في صفوفنا، و وظيفة هؤلاء تحقيق “التدافع الداخلي” الذي يضمن بقاء الجدران الخارجية للبيت بيضاء من غير سوء.

و منهم من يتأفف ناعقا يحسب نفسه يغرد بأن الإسلاميين تسرعوا بخوض بحر السياسة، و أن المبذول أكثر من المغنم و أن الأهوال أكثر من الأنفال، و ما قوله إلا عن جهل عميق بالسياسة و علومها و قواعد ممارستها، و عليه نضرب مثالا: فالمحيط الأطلسي سمي يوما بحر الظلمات، في زمن جهل الناس بقواعد الإبحار و حركة الرياح، و بعد أن صار الناس عالمين بها صار الأطلسي في حكم اليابس، يخوضه الناس آلافا لا تهاب فيه غرقا، كذلك شأننا اليوم و قد يسر الله أن أوجد لنا التاريخ من العارفين بالسياسة و السابرين غورها ما يؤهلنا لمشاركة سياسية نوعية، أبهرت الصديق و العدو و مفاجئة ببراعة الإسلاميين في تدبير الشأن العام و سياستهم له، كان علينا لزاما خوض بحر الظلمات، ذاك بعد أن صارت أدوات الإبحار جاهزة و طاقم السفينة مؤهلا.

أما قولهم بغياب المغنم فباطل رآه العميان، فأي مكسب أكبر من التعريف بالمشروع الإصلاحي و تمليك الفكرة للمجتمع و فك أغلال الاحتكار عن الإصلاح. و لو لم يكن لهذه المشاركة عائد إلا أن كسرت أسوار الخوف من الإسلاميين لكان لها من الفضل ما يخرس أفواه الحقد و الجهل. فكان وزر استعلاء أهل المصالح عليهم واقعا، و سبيل الإصلاح جلي، أن ضخوا الدماء النقية في جسد السياسي من الهيآت لتغسل ما توضع عليها من غبار خالف المبادىء التي بني هذا الأمر عليها أول التأسيس. و ثاني الأخطاء: “الانفتاح الزائد”، إذ عملوا غلوا بمنطلق أننا “من المجتمع و إليه”، و هذا صحيح شرط التوسط فيه، فإذا ما كان الانفتاح أغلب من القدرة عن الاستيعاب، شاع العبث بين الدعاة، و تسربت إليهم أمراض المجتمع و رجحت كفة التأثر معلية كفة التأثير، لتصير الحاجة الأشد الحاجة إلى ” حركة إصلاحية داخل الحركة الإصلاحية “، و لهذا عواقب لا حصر لها و لا قدرة للعقل البشري على استشراف مآلها، و ليس لنا ذكرها و تصنيفها فليس هذا موضعها. و الاستدراك أن ضيقوا الأبواب في غير إغلاق، و انحتوا ما جمعتم قبل أن تستوردوا المزيد. و الزموا ما قال السابقون من فقهاء الدعوة أن ليست العبرة بالعدد و الكم و لكن العبرة بمخرجات التأطير و التكوين. و عن ثالث الأخطاء نقول: أن راجعوا برامج التكوين و نقحوها بمزيد من “الثقافة التنظيمية”، و اصنعوا الحفيظ العليم و القوي الأمين، و كفانا صناعة للدروايش الذين لا يفقهون إلا الصلاة و التسبيح و ما لهم في الميدان من صولات.

كما ننبه إلى دور التنشئة السياسية في حفظ مواقع المسؤوليةمن الانتهازيين، فالديمقراطية الداخلية و المساطر بهيآتنا تحصن التنظيم من كل اختراق إلا إذا ما تم عليه اجماع، و لن يجمع على ناقص إلا إذا كان السواد جاهلا بمؤهلات التحمل، و به كان اختراقنا مستحيلا إلا من جهل. و لا يخفى ما للثقافة التنظيمية من انعكاس على سلامة التنظيمات و آداء الموارد البشرية. كما أكد جبرائيل ألموند و فيربا في كتابهما ” الثقافة المدنية civil culture” على التنشئة لسياسية باعتبارها عاملا رئيسا في توريث الثقافة السياسية لجيل الخلف ضمانا لبقاء المشعل منيرا. و وافقهما أحمد سليم البرصان حيث أدرج في كتابه “علم السياسة” فصلا عن التنشئة السياسية كان أهم ما أورد فيه: “… و في المجتمعات التقليدية ذات الثقافة السياسية المحدودة و قلة التنشئة السياسية يكون المنصب حسب الانتماء القبلي و العرقي و الأسري بغض النظر عن الكفاءة و الوعي مما ينشر الفساد السياسي و النهب للمال العام …”.

و ختاما فالأصل دعوة فعدالة، و الغاية واضحة و أصل ما لنا فيه حق اجتهاد، و مما روى ابن كثير في “البداية و النهاية” أن ربعي بن عامر رضي الله عنه أجاب لما سئل: “ما جاء بكم”، أن “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، و من ضيق الدنيا إلى سعتها، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام”. هذا حتى لا يسوقنا سوط رياح مستحدثة كالبهائم، لتزيغنا عن الغاية الكبرى، و لسنا للتجديد ننكر حاجة، و إنا من دعاته إن كان في الفروع، و الأصول ثوابت.