منتدى العمق

الذاكرة و الكتابة: اتحاد مقدس أم طلاق مستحيل؟‎

سألني صديقي يوما مازحا : هل الذاكرة تتنكر للكتابة ؟ والحقيقة وجدت أن المسألة تحتاج فعلا إلى تأمل ومعاينة خصوصا حين يتعلق الأمر بالتداخل بين الأدب بإعتبار الكتابة نتاجا ومخاضا له، والذاكرة التي لا تتردد في نشر ظلالها على الكاتب، ليظل هذا الفعل النمطي لصيق به لما بعد رفع قلمه عن بياض الورقة ويمتد في رمادية صحوته وظلمة منامه

وعلى هذا النحو، من الخطأ تناول المسألة بعيدا عن هذه الثنائية المتلازمة للكاتب تحت سقف العلاقة الحميمية والتلاقح الشرعي بين اللغة والكتابة والتي غالبا ما تلد مواليد أدبية تتزين بتقنيات وجماليات منقطعة النظير ترقى بها لأسمى درجات الابداع .

وبغض النظر عن كون هذه المواليد ذات الأجناس الأدبية المختلفة شرعية أو من جينات مختلفة، فيبقى للرحم الذي ترعرعت فيه صلاحيات مهمة وتأثيرات فعالة في تأثيث المكون الأدبي والثقافي، كيف ما كانت أسس وأركان حضارته الثقافية. حيت من هنا تسطع أولى الومضات الجينية – والتي لم تنشأ من فراغ – فهي وليدة رواسب وتراكمات فاضت بسخاء عبر قنوات متعددة : كالمواقف الإنسانية أو الظواهر الطبيعية، وعلاقتها بالإنسان من مشاعر ناعمة وأخرى خشنة سمجاء وأحيانا مؤلمة. وهكذا يمتد هذا السيل الجارف إلى مشاتل الحروف والكلمات لتحسين وتعزيز جدور المنتوج الأدبي، وزاحفا بذلك إلى الأماكن المنسية من الذاكرة والشخوص الغامضة والمكشوفة التي ألفتها واحتضنتها أو نفرتها وجرفتها خلال مرورها واجتياز منعطفاتها المتداخلة والمتشابكة. ومن خلال هذا الخضم الهائل الواسع وعندما ينهال عن الكاتب ويحاصره فلا يجد بدا هذا الأخير من البحت في مسالك حسب السرديات المتنوعة لإفراغه بما فيه من حمولات كثيرا ما يجد نفسه طرفا فيها بشكل أو بآخر، وعلى هذا الأساس الحتمي لا يمكن للذاكرة أن تتخلى عن الكتابة ولا تتنكر لها ولا ينبغي لها ذلك، إلا في مواضع العبث و العصيان أو النسيان والنكران .

والكتابة وإن قدر الله  ولبست ثوبا غير ثوبها وتباهت وتفاخرت به، فهي تحاول بذلك إعادة تشكيل عالم آخر جديد ينضاف إلى العناصر الجمالية العامة المكونة لملكوت الكتابة. وقدسيتها وزينتها هذه،  إنما لتنوير عتمة الذاكرة والغوص في أغوارها لإستكشاف ذرر كنوزها وكسر نوازلها و عوارضها التي تشكلت على مدار سنين خلت نتيجة تساقط أوراق الذاكرة وذبولها وتراكم غبار النسيان على صفحاتها .

وانطلاقا من هذا الإعتقاد السائد عند معظم النقاد القاضي بوجود أكثر من خيط ثقافي أو رابط معرفي بين الكتابة والذاكرة ، إلا أنه لابد من وجود أكثر من تحد في إنتاج أحدهما أو كلاهما على حد سواء . هنا نتساءل : هل نحن نكتب لنتذكر ؟ أم نتذكر لنكتب ؟ السؤال في حد ذاته إشكال أسال الكثير من المداد على مختلف أنواع وأشكال الكتابة ومن مختلف روافد الذاكرة. فمنهم من يرى الكتابة وسيلة للإنقاذ الذاكرة من بحر النسيان ويفرغها في الصفحات كي لا تضيع، ومن يرى الكتابة خيانة بيضاء تسرق من اللحظة روعتها، إلى آخر يستيقظ على كلمات تطرق نوافذه كشدو الطيور في الصباح. فيكشفها لتكون تغريدة لحظة عابرة. وتظل الذاكرة  تئن تحث وطأة هذا الحفظ القاسي في انتظار ذاك القلم الجريء الفاتك ليخرجها من مخبئها القصري ، لتنساب في مياه النهر ولا تقبل العودة . فكل كتابة هي غمسة جديدة في مياه متجددة ومختلفة . ليس المهم الإجابة عن هذا السؤال ، بل إدراك أن الذاكرة والكتابة يخلقان بعظهما البعض .هنا في هذا التداخل السحري، السؤال نفسه إجابة : نكتب لنتذكر ونتذكر لنكتب ، فكلاهما وجهان لقطعة نقد واحدة صاغها الزمن من ضوء الوجود وظلام الفناء .

وفي الختام ليست هناك خيانة، بل هناك رقصة قدرية وحتمية. وردة واحدة في جنان الإبداع . يتقاسمان الحب والغدر، والصمت والكلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *