ظاهرة الغش في الامتحانات: أزمة قيم تعصف بالمنظومة التعليمية

تُعد ظاهرة الغش في الامتحانات من أبرز التحديات التي تواجه المنظومة التعليمية، خاصة مع اقتراب موعد امتحانات البكالوريا، حيث تتجدد مظاهر التطبيع مع هذا السلوك بين عدد من التلاميذ. ويبدو أن الغش لم يعد سلوكًا فرديًا معزولًا، بل تحوّل إلى ممارسة جماعية تُشجّع عليها شبكات منظمة، توفّر الوسائل التقنية المتطورة، مما يُحوّل لحظات التقويم إلى سوق سوداء نشطة، لا تخضع إلا لقوانين الربح والخسارة.
تكمن خطورة الغش في كونه لا يُهدّد فقط مصداقية الامتحانات، بل يضرب في العمق جوهر العملية التعليمية، التي يُفترض أن تكرّس قيم الجهد والمثابرة وتُنمي قدرات التحليل والإنتاج الفكري. لقد تفشى هذا السلوك في مختلف المستويات التعليمية، نتيجةً لعوامل متشابكة، على رأسها الهوس المجتمعي بالشهادات والنقاط المرتفعة، في ظل غياب حقيقي للوعي بقيمة التعلم كأداة للارتقاء الفردي والجماعي.
ومن المفارقات الصارخة أن بعض المؤسسات التعليمية، بدلًا من مواجهة هذا الانحدار، تساهم فيه بشكل غير مباشر عبر تضخيم نتائج المراقبة المستمرة، إما لإخفاء تدني المستوى العام للتلاميذ، أو لتفادي المساءلة الإدارية. كما يُمارَس ضغط كبير على الأساتذة حتى لا يمنحوا نقاطًا ضعيفة، حمايةً لمواقعهم وتفاديًا لتعقيدات التقارير والمتابعات، ما يُفضي في النهاية إلى تزييف صورة المردودية التعليمية.
إن الوضع الراهن يتطلب وقفة نقدية جادة لإعادة الاعتبار لقيم التعلم والمعرفة، وذلك من خلال غرس قناعة راسخة لدى التلميذ بأن قيمة التحصيل لا تُقاس بالأرقام بل بما اكتسبه من كفايات ومهارات، وقدرته على التفكير النقدي وتحليل الواقع، فضلًا عن توظيف ما تعلمه في حياته الخاصة والمهنية والاجتماعية. إن ربط النجاح المدرسي بالحياة العملية يتطلب أيضًا إعادة النظر في العلاقة بين المدرسة والتعلم، وتوسيع دائرة التكوين لتشمل القراءة الحرة والبحث الذاتي كرافدين أساسيين لبناء الشخصية المتعلمة.
في سياق آخر، يُسهم التهافت على النقاط في انتعاش سوق الدعم المدرسي، حيث تنشأ مراكز تبيع الوهم وتُقدّم حلولًا سهلة للحصول على الشهادة دون بناء حقيقي للمعرفة. كما يساهم القطاع الخاص في تكريس هذا التوجه من خلال سعيه المحموم لإرضاء الأسر بنتائج مرتفعة، ما يُحوّل العملية التعليمية إلى صفقة تجارية قائمة على العرض والطلب.
إن معالجة هذا الوضع لا يمكن أن تتم إلا عبر مراجعة شاملة لمنظومة التقييم، وإعادة الاعتبار لقدرة التلاميذ على التفكير والتحليل عوضًا عن الحفظ والتلقين. فمتطلبات العصر تفرض على المدرسة أن تفتح أبوابها أمام الإبداع والابتكار، وتُكرّس الحرية في البحث العلمي، وهذا لا يتحقق عبر الغش أو تضخيم النقاط، بل عبر جدية العمل والوعي بقدسية المعرفة.
في المحصلة، لا يُمكن بناء مجتمع متماسك ومبدع بشهادات خالية من المضمون، بل بعقول نيرة قادرة على التعبير والفهم والإنتاج. وحدها هذه العقول قادرة على إضاءة دروب التعليم، وإعادة الأمل إلى مدرسة ما تزال تئن تحت وطأة الأرقام المنفوخة والضمائر الغائبة.
تعليقات الزوار
لك كل الاحترام والتقدير استاذ سليم. لقد لخصتم كل شيء، كما فعلها الدكتور المنجرة رحمه الله، من قبل. من الصعب جدا الأن الرجوع إلى المبادئ واحياء الضمير... ومن المؤسف ان نبقى مكتوفي اليدين نتتبع اندثار سلوكنا وسلوكياتنا بوما بعض يوم! لكن من الجميل ان نرى استاذ ا لا زال يومن بتكافى الفرص...