منتدى العمق

الحكومة ورهان العدالة الضريبية في مشروع قانون المالية 2026

تعتبر السياسة الضريبية إحدى أهم الركائز التي تعتمدها الدولة لضمان استقرارها الاقتصادي والاجتماعي، فهي ليست مجرد وسيلة لتعبئة موارد مالية لميزانية الدولة، بل أداة استراتيجية لتوجيه النشاط الاقتصادي، وتحفيز الاستثمار، وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وفي المغرب تكتسي هذه السياسة أهمية مضاعفة بالنظر إلى التحديات المتعددة التي تواجه البلاد، من محدودية الموارد المالية وضغط النفقات العمومية، إلى الحاجة الملحّة لتمويل مشاريع البنية التحتية وتحسين الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم.

تشكل الضرائب المصدر الأساسي لتمويل المالية العمومية، غير أن النقاش الدائر لا يقتصر على حجم الإيرادات بل يتجاوز ذلك إلى مدى عدالة توزيع العبء الضريبي بين مختلف الفئات. فالعدالة الضريبية تمثل معيار الإنصاف في أي نظام جبائي، إذ يُفترض أن يساهم كل مواطن بحسب قدرته المالية. وقد نص دستور 2011 بوضوح في فصله 39 على أن “على الجميع أن يتحمل، كل قدر استطاعته، التكاليف العمومية “، وهو ما يضع أساساً دستورياً لمبدأ المساواة في المساهمة وربطها بالدخل والقدرة المالية.

لكن الممارسة العملية تكشف عن عدة إشكالات، من بينها الثقل الكبير الذي تتحمله الطبقة المتوسطة والأجراء عبر الاقتطاعات المباشرة، مقابل محدودية مساهمة بعض القطاعات الأخرى، خاصة تلك ذات الأرباح المرتفعة أو القطاع غير المهيكل. هذا الوضع يخلق شعوراً متزايداً بعدم الإنصاف، ويضعف الثقة بين الدولة والمواطن، مما قد يؤدي إلى اتساع ظاهرة التهرب الضريبي.

في هذا السياق، يكتسي مشروع قانون المالية لسنة 2026 أهمية خاصة، باعتباره يندرج ضمن مرحلة جديدة من التحول الاقتصادي والاجتماعي، تنفيذاً للتوجيهات الملكية السامية. فقد حدّدت الرسالة التوجيهية التي وجهها رئيس الحكومة إلى القطاعات الوزارية أربع أولويات كبرى: تعزيز إقلاع المملكة، تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمجالية، توطيد أسس الدولة الاجتماعية وتسريع الإصلاحات الهيكلية الكبرى، والحفاظ على توازن المالية العمومية.

ومن خلال هذه الأولويات، يرسم المشروع ملامح مسار إصلاحي يقوم على تعبئة مختلف روافع النمو والاستثمار، وتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، مع إعطاء مكانة مركزية للعدالة المجالية والاجتماعية. فقد أكدت المذكرة التوجيهية أن المغرب مقبل على مرحلة جديدة ترتكز على النهوض بالتشغيل، تعزيز الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، حماية الموارد المائية، وتأهيل المجالات الترابية في إطار رؤية تنموية مندمجة. كما يتضمن المشروع إجراءات لتوسيع التغطية الاجتماعية وتعميم الدعم المباشر وضمان استهداف أدق للفئات الهشة، إلى جانب إعطاء دفعة قوية للسكن وتعزيز القدرة الشرائية للأسر.

ويضع المشروع تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية في قلب أولوياته، انسجاماً مع الرؤية الملكية التي تكرّس التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. وهو ما يجعل من الإصلاح الضريبي رافعة أساسية لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل، وضمان مساهمة أوسع للقطاعات ذات القدرات المالية المرتفعة، مقابل تخفيف الضغط عن الفئات المتوسطة والمحدودة الدخل.

على المستوى المالي، يهدف مشروع قانون المالية لسنة 2026 إلى الحفاظ على التوازنات الماكرو–اقتصادية، مع استهداف معدل نمو في حدود 4,5%، وخفض عجز الميزانية إلى 3% من الناتج الداخلي الخام، والتحكم في معدل المديونية عند سقف 65,8% في أفق سنة 2026. وهي أرقام تعكس إرادة الحكومة في الجمع بين الإصلاحات الاجتماعية والاستثمار المنتج من جهة، والحفاظ على صلابة الاقتصاد الوطني من جهة أخرى.

و في حصيلة جديدة، يظل مشروع قانون المالية 2026 محطة مفصلية في مسار الإصلاح الجبائي بالمغرب، إذ يربط بين العدالة الضريبية كمبدأ دستوري وواقعي، وبين رهانات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمجالية. وإذا ما نجح هذا المشروع في ترجمة مضامينه على أرض الواقع، فسيكون خطوة حاسمة نحو بناء نظام ضريبي أكثر إنصافاً وفعالية، وإرساء دعائم دولة اجتماعية قوية، قادرة على الاستجابة لتطلعات المواطنين وتحديات المرحلة الراهنة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *