على هامش امتحانات الباكالوريا؛ التوجيه وأسئلة الدراسة والتكوين

على هامش امتحانات الباكالوريا بدورتيها العادية والاستدراكية، وما يواكبها من استنفار لمختلف المتدخلين التربويين المكلفين بالإجراء، بدء بالإعداد والتحضير المادي واللوجستيكي، مرورا بأيام النفير وانتهاء بساعات الإعلان عن النتائج وتجميع المعطيات النهائية وتنسيب الأرقام، وغير ذلك من العمليات المصاحبة القبلية والبعدية. يختفي وراء كل ذلك المعني المباشر بتلك الامتحانات، ألا وهو التلميذة والتلميذ، الذَيْن ما يفتآ يفيقان من هذه الجلبة المصاحبة لأيام ما قبل الإجراء وما بُعَيْده، فرحا وحبورا، أو قرحا وثبورا، حتى يجدا نفسيهما أمام واقع آخر، غير مفكَّر فيه في الغالب، حيث تتناسل أمامهما أسئلة تتلخص في سؤال وحيد؛ وماذا بعد؟
وإذا تركنا سؤال ما بعد الإخفاق جانبا وركزنا على سؤال ماذا بعد النجاح في امتحانات الباكالوريا والحصول على تلك الشهادة، باعتبارها أولى الشهادات الوطنية في المسار الدراسي للإنسان المغربي، فالسؤال يولد أسئلة جوهرية أخرى تنزل بكامل كلكلها، ليس فقط على حامل الشهادة نفسه بل تتجاوزه للآباء والأولياء الذين ما تكاد تنقشع فرحتهم بنجاح فلذة الكبد حتى تظهر أمامهم غيوم المستقبل وقد استقبلت سماء أفكارهم وغطت بكثافتها المختلفة أفهامهم، فتتقاذفهم أسئلة المستقبل الدراسي والمهني وإكراهاتهما المختلفة، فيشعرون وكأنهم تُركوا لوحدهم يجابهون هول التحديات، ويتقلبون بين أمواج عاتية من أسئلة الحاضر والمستقبل، لا زاد لهم سوى تلك الشهادة وكشفا بنقط الامتحانات، فمنهم من يرفع راية التحدي ويمضي قدما في مسلسل البحث عن مدرسة عليا أو معهد عال أو مؤسسة جامعية أو تكوينية أخرى لتجريب حظه وتبييض مجالات الظل المعتمة أمامه، مستعينا بالمعلومات التي توافرت لديه من الشبكة العنكبوتية، التي وإن كانت تقدم لزائرها سيلا من المعلومات والمعطيات، إلا أنها في ذات الآن تغرقه في وحل اللايقين وفوضى المعرفة؛ إذ هو لم يكن قبلُ قد تسلح بالأدوات المنهجية القمينة بالسير به إلى بر وساحل النجاة، وخاصة أن أغلب التلاميذ لا يعيرون كثير اهتمام بتملك تقنيات البحث قبل أن يجدوا أنفسهم أمام الأمر الواقع، باعتبارهم ضحايا مجتمع يغلِّب الكم على الكيف، والنياشين على العمق، وأبهة الألقاب على رصانة الاستحقاق.
لكن هؤلاء على كل حال سيكونون ممن فكروا في بناء “مشروع شخصي” دراسي ومهني، أو على الأقل راودتهم أفكار حول الذات والمحيط، واستفادوا من متابعة ذوي التخصص في الثانويات من أطر التوجيه والمختصّيين الاجتماعيين، وكذا أساتذتهم في المواد المختلفة، وإن بحظوظ متفاوتة بطبيعة الحال، مما قد يساعدهم على تجاوز كثير من العوائق التي تعترض مسيرتهم في اتخاذ القرار الدراسي والتكويني المناسب لاستعداداتهم وميولاتهم، والفرص الدراسية والتكوينية المتاحة أمامهم، ويدفعهم للانخراط السلس في مسلسل البحث عن الذات وسط عالم دراسي وتكويني يتسم بالتنوع وعدم الاستقرار. أو لنقل على الأقل أنهم سيختارون بوعي مجالا دراسيا يعتقدون أنه الأقرب إلى المشروع الدراسي والمهني الذي رسموه في مخيلتهم، أو يتقبلون الانخراط في مجال آخر سمحت لهم الأقدار بولوجه والانتساب إليه في إطار المرونة والواقعية، نزولا عند منطوق الحكمة الشعبية المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب “إذا لم تجد ما تحب، فحب ما تجد”.
أما الفئة الأخرى من حاملي الباكالوريا، والذين لا يملكون ما يسمى في قاموس التوجيه بالمشروع الشخصي، أو بالأحرى لم يكن لهم من همّ سوى الحصول على لقب “عندي الباك”، فحالتهم أدهى وأمر؛ إذ يجدون أنفسهم وقد انقطع بهم الوصل مع عالم المدرسة التي كانت تحتضن ذواتهم حسيا أو معنويا أو هما معا، مع ما يعنيه ذلك من ارتباط عضوي بالفاعلين الداخليين والخارجيين للمؤسسة الثانوية ومحيطها القريب، وليس لهم في ذات الآن بديل مأمول يعوضون به هذ الفصام، فيلفون أنفسهم، والحال كذلك، على قارعة طريق لا يعرفون مبتدأها من منتهاها، وليس لهم من دليل يهتدون به في ظلمات طريق المستقبل القريب قبل البعيد؛ إذ هم لم ينخرطوا البتة في سيرورة رسم معالمه، ولا في مقاربة أسئلة فهم الذات ومعرفة مواطن القوة والضعف، فأحرى أن يبحثوا عن أجوبة لأسئلة لم يكلفوا أنفسهم عناء وضعها حول آفاق الدراسة والتكوين وسوق العمل.
وحتى نكون منصفين إلى حد بعيد، فالذنب لا يتحملونه لوحدهم؛ إذ لم تُتح للعديد منهم الفرصة لاستكشاف الذات، ولم يجدوا أسرة ومدرسة ومجتمعا حاضنين لأفكارهم وتطلعاتهم وتغيرات ذواتهم، سواء تلك المرتبطة بالتغيرات النفسية المتشابكة المرتبطة بنموهم وتأثيرات المحيط الواقعي والعالم الرقمي عليهم، أو تلك المتغيرات المرتبطة بالجوانب الدراسية التي غالبا ما نجد هذه الفئة متخبطة في أزمات دراسية تترى، بالنظر لضعف تعلماتها الأساس عبر مختلف مستوياتها الدراسية وعشوائية اختياراتها للشعبة والمسار الدراسيين قبل وصولها لمحطة السنة الختامية من سلك الباكالوريا.
عموما فالفصل بين الفئتين السالفتي الذكر، لا يعدوا في نظرنا أن يكون سوى فصل منهجي، سمح لنا بمقاربة موضوع سؤال ماذا بعد حصول تلامذتنا على شهادة الباكالوريا والإشكالات المرتبطة بالتوجيه والاختيار الدراسي والتكويني لهؤلاء، بحثا عن آفاق مهنية تسمح لهم بالانخراط الإيجابي في سوق الشغل والمجتمع معا. لكن الفئتين معا تجتمعان في حاجتهما الملحة لتوجيه “مفردن” (بصيغة الفرد لا الجماعة) قبل، أثناء وبعد حصولهم على شهادة الباكالوريا.
هذا الطموح لن يتأتى إلا بجملة من الإجراءات التي نذكر من بينها: تفعيل “البوابة الوطنية للتوجيه” التي تهدف إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية؛ أولها يتجلى في توفير المعلومة الدقيقة والمحينة التي تسمح للتلاميذ وأوليائهم بالاطلاع المباشر على التكوينات والشعب والمسالك والممرات والجسور…، وثانيها يتمظهر في تعزيز الوعي بأهمية التكوينات المهنية في تحقيق الإدماج المهني لهؤلاء الشابات والشباب، أما الهدف الثالث، والأهم، فهو تمكين هؤلاء من الترشيح الإلكتروني لمختلف المباريات الدراسية والتكوينية، وتتبع مسار طلباتهم عن بعد ربحا للجهد والوقت، مع فتح تلك المباريات في وجه أكبر عدد ممكن من التلاميذ باختلاف شعبهم والنقط التي حصلوا عليها ضمانا لتكافؤ الفرص.
أما الإجراء الثاني فيرتبط بتوفير صنافة وطنية محينة للمهن مرتبطة بالفاعلين الاقتصاديين وبالمؤسسات التكوينية المختلفة وبالمؤسسات التي تقوم بأدوار الوساطة بين عالم الدراسة وعالم الشغل على غرار “الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات” (ANAPEC)، وذلك لتسهيل الاندماج المهني لهؤلاء الشباب عبر مسار متدرج يأخذ بعين الاعتبار ميولاتهم وقدراتهم واستعداداتهم، ومُدْمجٍ لمتغيرات عالم الشغل والمهن ومتطلبات التنمية والاستراتيجيات الوطنية في مختلف القطاعات والمجالات العامة والخاصة، مما سيسهم لا محالة في ردم الهوة بين العالم الخاص لتلامذتنا، وبين هؤلاء وعالمي الدراسة والتكوين من جهة وعالم الشغل والتمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية، حفاظا على مواردنا البشرية صلبة التكوين، باعتبارها الضامن الأساس للنهوض الاقتصادي والاجتماعي في عالم سريع التغير تتنافس فيه الأمم على العقول والكفاءات قبل البضائع وموارد العيش الأخرى.
اترك تعليقاً