ضمن مؤلف حديث.. همام يقرأ التوحيدي من جديد في “محنة العقل والهوية”

صدر حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر كتاب جديد للباحث المغربي محمد همام، يحمل عنوان “محنة المثقف العضوي في الثقافة العربية القديمة: أبوحيان التوحيدي نموذجا” (2025)، وإن كان كُتب أول مرة قبل 28 عاما، عندما كان المؤلف في بدايات تجربته الأكاديمية.
يُعد هذا الكتاب، الذي وُلد في حرارة التجربة الأولى، أقرب كتب همام إلى قلبه، وعقله، وقلمه، يقول همام، “رغم أنني ألفت خمسة عشر كتابا، فإني أعتبر هذا الكتاب هو الأقرب إلى قلبي وعقلي وقلمي،” مضيفا “كلما رجعت إلى كتابي مخطوطا، وإلى كتب أبي حيان، إلا وهجم علي طوفان من الذكريات، والتذكر، والاستذكار، والذكر، والمذاكرة”.
الكتاب في أصله رسالة دكتوراه من جامعة القاضي عياض بمراكش، نال بها المؤلف دبلوم الدراسات العليا سنة 1998، بعد حصوله في 1994 على دبلوم الدراسات العليا المعمقة من الجامعة نفسها، في موضوع مختلف تناول تأويل المصطلح البلاغي في كتب الإعجاز القرآني: عبد القاهر الجرجاني نموذجا، وهو عمل يعد بنشره لاحقا.
يتمحور الكتاب حول شخصية أبوحيان التوحيدي، بوصفه نموذجا لما يسميه همام بـ”المثقف العضوي”، ويتتبع من خلاله التحولات الفكرية والرمزية لهذا المثقف في الثقافة العربية الكلاسيكية، وقد انطلق همام، وفق وصفه للكتاب، في مشروعه من لحظة وعي أولى، عندما قرأ اسم التوحيدي لأول مرة في كتابات المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، خلال عطلة صيفية حارة سنة 1991 في بلدته أولاد جرار.
أثار اهتمام الجابري بالتوحيدي أسئلة كبرى في ذهن الباحث الشاب آنذاك، وفق قوله، لاسيما عندما وصف الجابري المثقفين الذين تحدث عنهم التوحيدي في كتابه “المقابسات” بأنهم “مثقفو المقابسات”، أولئك الذين يقرأون كثيرا ويكتبون كثيرا ويناقشون كثيرا، ولكن “من دون التزام عضوي أو اجتماعي أو موقف سياسي”، موقف لم يكن همام مقتنعا تماما بدقته، دون أن يدخل في جدل مباشر مع أطروحة الجابري.
هذا التباين فتح أمام همام مجالا واسعا للتأمل والبحث، خصوصا بعد أن جمعته لقاءات فكرية مباشرة مع الجابري، من بينها زيارة إلى بيته سنة 1995، حيث دار الحديث مجددا حول التوحيدي، على خلفية ظهور كتاب طه عبد الرحمن الجديد آنذاك “تجديد المنهج في تقويم التراث”، الذي تضمن نقدا للجابري، و المفارقة أن الجابري أكد له في هذا اللقاء أنه كان سبّاقا لاكتشاف أهمية مناظرة متى بن يونس وأبي سعيد السيرافي، كما رواها التوحيدي، بينما وجد همام إشارات أسبق عند طه في أطروحتيه بجامعة السوربون.
ويستحضر همام هذه اللحظات بوصفها محطات حاسمة في تشكله الفكري، قائلا، إن التوحيدي كان الميزان الذي وقف عليه بين الجابري وطه. وهو ما يتجلى في مساره الأكاديمي؛ إذ كتب بحث التخرج الجامعي حول “اللغة في مشروع الجابري” سنة 1993، ثم خصص أطروحته الثانية للدكتوراه عن “اللغة والبلاغة في مشروع طه” سنة 2003، فيما جاء بحثه حول التوحيدي كحلقة وسطى في 1998.
الكتاب كتب في صيف آخر حار، لكن هذه المرة من بلدة لاخصاص، منطقة جبلية أمازيغية جنوب المغرب، حيث حظي بدعم وتقدير مجتمعي نادر. هناك، انزوى المؤلف للكتابة، بينما كان يتواصل ليلاً مع أهل البلدة من فلاحين وحرفيين وتجار، يقول همام “أدعي أنني قرأت كل كتب أبي حيان المطبوعة، وكذا المتفرقة في المدونات الأخرى، مثل معجم ياقوت الحموي.”
الكتاب ليس فقط بحثا أكاديميا، “إنه كتاب ظاهره حروف، وباطنه وجداني وعواطفي وذكرياتي مما لا أستطيع البوح به لأحد.” في صفحاته تنبض أصوات الماضي، وتتشكل خرائط فكرية تقود القارئ إلى أعماق إشكالية المثقف العربي في تاريخه الطويل، عبر عدسة فاحصة ومخلصة، عكف صاحبها على صياغتها طيلة أكثر من ربع قرن.
اترك تعليقاً