الثورة الرقمية والسلطة الترابية : من إدارة المجال إلى هندسة البيانات الترابية

تعتبر السلطة الترابية من بين أهم المفاهيم الجوهرية في دراسة نظم الحكم والتنظيم الإداري، حيث تمثل الإطار القانوني والسياسي الذي يخول للمؤسسات المحلية والفواعل الإقليمية ممارسة السلطة على مستوى معين من الجغرافيا الاجتماعية والسياسية.
وتتجلى أهمية السلطة الترابية في قدرتها على تحقيق التكامل بين المركز والهامش، من خلال توزيع الصلاحيات والمسؤوليات بين المستويات المختلفة للحكم، مما يعزز من الفعالية في إدارة الموارد المحلية وتلبية حاجيات المواطنين على نحو أكثر دقة ومرونة.
وعليه، فإن تحليل السلطة الترابية يفتح آفاقا لفهم طبيعة التفاعلات بين الدولة والمجتمع المحلي، ومحددات تمكين السلطات الترابية، فضلا عن دراسة الآليات التي تضمن التوازن بين الاستقلالية المحلية والانضباط المؤسسي المركزي، وهو ما يشكل محورا حيويا في الدراسات السياسية والإدارية المعاصرة.
وبناءا على ماتتيحه لنا القراءة الأولية، الموجهة بإطار مفاهيمي مضبوط، من ملامسة أولى المضامين الدالة على أن السلطة الترابية في الزمن المعاصر تعيش تحولات جذرية لم تعد تقتصر على إعادة تعريف أدوارها التدبيرية والتنظيمية في المجال، بل تجاوزت ذلك نحو محاولة لخلق أنماط جديدة من الانخراط المؤسساتي الفعال، ترتكز فيه على ما يمكن تسميته بهندسة البيانات الترابية، كأفق مفاهيمي وعملي يعيد صياغة علاقة الفاعل الترابي بالمجال، لا فقط من منظور مادي أو إداري صرف، بل من منظور معرفي رقمي يعتمد على كل من الذكاء الاصطناعي، نظم المعلومات الجغرافية، وتدفق البيانات الكبرى كمصادر جديدة للسلطة والتنظيم.و بالاستناد إلى البنية الكرونولوجية الأساسية لأداء السلطة الترابية، نجد على أنها كانت تفصح بشكل واضح، على إرادة الدولة في بسط سيادتها على المجال من خلال أدوات قانونية وتنظيمية ومؤسساتية، قائمة على منطق الضبط والتخطيط والتدبير الهرمي للمجال. غير أن الطفرة الرقمية بوصفها ظاهرة بنيوية عابرة للقطاعات، فرضت على الفاعل الترابي تجاوز أدوات التدبير الكلاسيكية التي تقوم على الخرائط الورقية والمساطر الإدارية و كذلك النماذج التوقعية الخطية، نحو مقاربات تفاعلية واستشرافية تستند إلى تحليل البيانات اللحظية، والمحاكاة الخوارزمية، والتجسيد الرقمي للظواهر المجالية.
فالرقمنة لم تعد مجرد أداة تقنية مساعدة، بل تحولت إلى نسق معرفي يعيد صياغة مجموعة من المفاهيم التي تشكل جوهر التنظيم الترابي للدولة، إذ أصبح المجال يرى ويفهم ويدار من خلال واجهات البيانات، ومؤشرات الأداء، ونظم الذكاء الترابي. وتستبطن هذه المقاربة تحولا معرفيا من إدارة المجال إلى هندسة المجال، أي من تصور ترابي يرتكز على مراقبة الحدود وتحقيق التنمية المجالية من منظور مكاني محض، إلى تصور معقد يرى في المجال بنية ديناميكية تفهم من خلال تحليل أنماط التفاعل البشري و أنظمة التنقل و مؤشرات الاستدامة والتفاعلات الرقمية.
وفي هذا الإطار، يطرح مفهوم الذكاء الترابي كرافعة إبستمولوجية جديدة، تمكن الفاعل الترابي من إنتاج معرفة استراتيجية حول المجال انطلاقا من تقاطعات متعددة تشمل البيانات الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية، والديمغرافية، والتي تدخل ضمن نماذج تحليلية تسمح باتخاذ قرارات أكثر فعالية وتوقعا. وهكذا، تتحول السلطة الترابية من مجرد وسيط إداري إلى فاعل استراتيجي، يوجه السياسات العمومية من خلال استثمار الذكاء الرقمي، والتحليل الخوارزمي، وصناعة القرار المبني على الأدلة.
ومن الجلي على أن هذا التحول الرقمي في تدبير التراب يطرح جملة من الاشكالات المعقدة ذات الطابع السوسيوسياسي و المتعلقة بكل من ملكية البيانات، حدود السيادة الرقمية، أخلاقيات التتبع الرقمي، وحوكمة المنصات الذكية التي أصبحت تنتج المجال وتعيد تشكيله، الأمر الذي اصبح يستدعي إعادة التفكير في المفهوم التقليدي للسيادة الترابية، التي لم تعد مرتبطة فقط بالحدود الجغرافية، بل أصبحت متداخلة مع سيادة البيانات والتحكم في أنساق البرمجيات ونقاط التمكن المعلوماتي.
وعلى هذا الأساس، فإن مفهوم هندسة البيانات الترابية يسير في نفس المنحى الذي تسعى له السلطة الترابية اليوم من أجل تحويل البيانات الأولية إلى معرفة ترابية معمقة، قادرة على التأثير في الواقع المحلي، وتوجيه السياسات التنموية، والتحكم في ديناميات المجال، وذلك عبر سلسلة من العمليات تشمل جمع البيانات ثم تنقيحها و تحليلها وإعادة توظيفها ضمن استراتيجيات ذكية للتخطيط والاسهام في اتخاد القرار.
وفي هذا الباب، يمكن استحضار تجربة بعض الجهات والجماعات الترابية بالمغرب التي شرعت في اعتماد نظم المعلومات المجالية والمنصات الرقمية التي تعمل على تدبير الأشغال العمومية ومعالجة الشكايات وكذا تتبع المشاريع، وقياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي للقرارات، في تجل واضح لتحول الرقمنة إلى بعد بنيوي حاضر في نشاط السلطة الترابية. غير أن هذا التحول لا يزال يواجه مجموعة من التحديات، أولها يكمن في الفجوة الرقمية البنيوية، التي تطبع التوزيع المجالي للبنية التحتية التكنولوجية، بحيث لا تزال العديد من الجماعات الترابية، خاصة في العالم القروي والمناطق النائية، التي تعاني من ضعف تغطية الشبكات، وقصور في الربط الرقمي، ما يجعل من تعميم الرقمنة أمرا مرتبطا بتدخل استثماري عمومي قوي يسد هذه الهوة، ويحول الرقمنة إلى حق مجالي مشترك، وليس امتيازا حضريا فقط.
ثاني التحديات يتمثل في ضعف الجاهزية المؤسساتية للسلطة الترابية، سواء على مستوى الموارد البشرية أو على مستوى النظم الإدارية المعتمدة. فالتحول الرقمي يتطلب إعادة هندسة شاملة لمفاهيم العمل الإداري الترابي، من خلال إرساء منطق التشاركية، والسرعة، والشفافية، والتفاعل المستمر مع المواطن الرقمي، وهي ثقافة إدارية لا تزال في طور التكوين، وتتطلب استثمارا متواصلا في التكوين وإعادة التأهيل، زيادة على تطوير برمجيات محلية تستجيب لحاجيات المحيط السوسيوترابي.
إضافة إلى أن الطابع اللامادي للرقمنة يشكل تحديا على مستوى الشرعية التمثيلية والتفاعل السياسي، إذ أن السلطة الترابية، باعتبارها امتدادا للسلطة المركزية وفاعلا مباشرا في التدبير العمومي، كانت نمطيا ترتكز على الحضور المادي للسلطة، والرمزية السلطوية، والعلاقات العمودية بين الإدارة والمواطن. أما في زمن الرقمنة، فإن العلاقة تصبح أفقية و متعددة القنوات التي تبنى على منطق الخدمة بدل السيطرة، وهو ما يطرح ضرورة إعادة تعريف أدوار ممثلي السلطة، وتحديث منطق تدبيرهم للفضاء العام، من خلال انفتاحهم على أدوات الذكاء الترابي والتواصل الرقمي.
كما يزداد الأمر تعقيدا حين ننتقل إلى سؤال الأمن الرقمي، حيث أن الرقمنة تجعل المعطى الترابي عرضة للهجمات السيبرانية، ما يفرض على السلطة الترابية تعزيز قدراتها في مجال الأمن السيبراني، وحماية المعطيات الشخصية، وضمان سرية المعاملات، وموثوقية النظم الرقمية المعتمدة. ايضا نجد على أن التفاعل الرقمي مع المواطنين قد يوظف كمنصة للاحتجاج، أو كأداة لتصعيد الخطاب الاحتجاجي و هو الأمر الذي يمكن ان يستغل من طرف بعض الجهات المعادية للنظام السياسي القائم، ما يحتم على السلطة الترابية خلق و تطوير استراتيجيات تواصلية استباقية وذكية، تراعي منطق الفضاء الرقمي، وتفكك خطاباته.
ومن جهة أخرى، فإن تحول الرقمنة إلى بعد بنيوي في النشاط الترابي قد يواجه معارضة ثقافية كامنة داخل النسق البيروقراطي التقليدي، الذي يفضل النمط الورقي، ويستبطن هواجس فقدان السلطة الرمزية في حال اعتماد الوسائط الرقمية. فهذا التوتر بين منطق التغيير ومنطق الاستمرارية يمثل تحديا عميقا، يستدعي إرادة سياسية واضحة، وتوجها استراتيجيا شاملا لإعادة تأهيل المؤسسة الترابية، بما يجعل الرقمنة مدخلا لإعادة إنتاج الفعل العمومي، لا مجرد ترف تكنولوجي ظرفي.
إن هذا التحول البرمجي لم يعد مجرد خيار تقني أو مرحلة عابرة، بل هو مسار هيكلي استراتيجي يعيد صياغة العلاقة بين الدولة ومجالها الترابي على نحو كلي، وقد أدركت السلطة الترابية المغربية، بحسها الواعي وتوجهها الديناميكي، أهمية هذا التحول ما دفها إلى وضع خطوات أساسية و فعلية من أجل تعزيز قدراتها وإعادة بناء منظوماتها الإدارية وفق منطق رقمي متقدم. و ما تبذله وزارة الداخلية باعتبارها السلطة الترابية المركزية من جهود متواصلة، سواء على مستوى تطوير البنية التحتية الرقمية أو تفعيل أدوات الإدارة الذكية، يعد انعكاسا حقيقيا لرؤية استراتيجية تستهدف تحويل السلطة الترابية إلى سلطة ذكية، قادرة على الاستجابة الفعالة للتحديات المعاصرة، ومتفاعلة مع مستجدات الواقع الرقمي بصورة منسجمة ومرنة.
وليس ذلك فحسب، بل إن السلطة الترابية باتت مدركة تماما لضرورة اعتماد منطق الاستباقية في إدارة الزمن العمومي، بحيث لا تكتفي فقط بمعالجة القضايا عند وقوعها، بل تسعى جاهدة إلى توقعها ومعالجتها قبل تفاقمها، ما يعكس نضجا مبكرا في إدارة الشأن المحلي ورؤية متقدمة في تطوير أدائها. كما أن الانفتاح الذي تبديه في اتجاه تعزيز الشفافية عبر نشر المعلومات وفتح قنوات التواصل الرقمي مع المواطنين، يعزز من الثقة بين المجتمع ومؤسسات الحكم، ويمهد الطريق لتثبيت دعائم الحوكمة الرشيدة على المستوى الترابي.
وإضافة إلى ذلك، يشكل الدفع باتجاه المشاركة الرقمية خطوة نوعية جعلت من السلطة الترابية فضاء حركي مفتوح للحوار والتفاعل المجتمعي، الذي يتيح للمجتمع المدني فرص التعبير عن طموحاته واحتياجاته و مساهمته في صنع القرار. وعلى هذا النحو، تسهم هذه الجهود المبدولة في تحويل الممارسة الإدارية إلى أسلوب جديد متطابق مع مقتضيات العصر الرقمي، يمكن السلطة الترابية من أداء دورها التنموي والاجتماعي بكفاءة أكبر، ويعزز من ديمومتها ومصداقيتها.
ما يفضي بنا منطقيا و استنتاجيا، إلى تبني الفرضية التي مفادها أن السلطة الترابية، عبر ما تقدمه من عمل منظم ومخطط، تمثل اليوم نموذجا متقدما في تبني التحول الرقمي كرافد أساسي لتحديث الإدارة المحلية، وتحقيق تنمية شاملة مستدامة، ترتكز فيه على قيم الحكامة الجيدة والشفافية والمشاركة المجتمعية، وتعزيز موقعها في أن تكون عنصرا محوريا في مستقبل الدولة الرقمية.
اترك تعليقاً