وجهة نظر

بين التربية والتعليم

طنجة أعظم ميدان للمواجهة في سلم الحضارة و الرقي، ميدان التربية و التعليم، ذلك الميدان الذي فيه يتقرر المستقبل، و على نتائج غرسه يتوقف مصير الأمة. نظام التربية و التعليم هو العمود الفقري للدولة. و إعادة ترتيب هذا الجهاز ضرورة الضروريات في حياة الأمة. لسنا بدعا من الأمم التي عانت مثل ما يعانيه نظامنا التعليمي أو أشد، لكنها لما أجمعت أمرها، و صح منها العزم على تغيير ما بها، و على إمساك مصيرها بيدها، خرجت من أزماتها، و تجاوزت مآسيها، و أنجزت ما نالت به مكانة عزيزة بين الدول. و لئن صح هذا في أمم شتى، فكيف لا يصح في بلدنا و وطننا العزيز و الغالي و هو الذي يملك من المقومات و الحوافز ما هو أفعل و أقوى مما لدى غيره. هي أسئلة استوقفتني بعد العاشر من شتنبر، بعد الدخول المدرسي لهذا الموسم و ما شابه من غياب للتلاميذ و من خمول و رخاوة عامة.

بين الهدف التعليمي و الهدف التربوي واسطة تصل أو تقطع

لا أحد ينكر دور مؤسسة الدولة في إصلاح التعليم، لكن نجاح التعليم و الرقي به لم يكن أبدا قضية دولة بالدرجة الأولى، بل كان البذل و التطوع و المسارعة إلى الخيرات هي البواعث الحقيقية، و هي الفواعل، و لا يلبث إصلاح سطحي أن يتلاشى وقعه إن تناول القشر ولم سيتفرغ اللب الموروث ليحيى في المنظومة التعليمية الإعلامية روح الإيمان المتجدد. هي ببساطة لغة التربية و التعليم. لغة التعليم واسطة تبليغ للرسالة التربوية الباعثة و للمضمون التعليمي العلمي. إننا بحاجة اليوم أن تنبعث هذه الإرادة المغيرة الفاعلة من داخل صدورنا نحن أولا كأساتذة، قبل أن نضع أمر إصلاح التعليم و الرقي به بين يدي الدولة و تتواكل إليه نفوسنا و تسكت عنه.

مبادرات التغيير

إن مبادرات التغيير التي قد تتخذها الدولة أو الجهاز الحكومي تبقى مولودا ميتا، أو تعيش كائنا هزيلا، إن اصطدمت بأرضية الخمول و ثقل العادات و الماضي، و لم يتبنها المهتمون بكل جدية و عزم. إن التغيير الحقيقي متوقف، أولا، على استرجاع إيماننا و ثقتنا بأنفسنا و اعتزازنا بوطننا و بلدنا، و متوقف أيضا على بناء الشخصية المواطنة المحبة لبلدها العالمة العاملة و الواعية بمسؤولياتها، متوقف بالأساس على المشاركة العامة و الانخراط في الاهتمام بمصير التعليم.

واجهة التربية و التعليم

لا تقاس واجهة التربية و التعليم و نجاحه فقط بعدد الخرجين من المعاهد العلمية التقنية، إنما النجاح الحقيقي بالكيف الخلقي الإيماني المشارك، و المسؤول الذي يتجلى به جيل كامل أصاب طويلا أو قصيرا من التكوين المدرسي. التربية و التعليم رسالة قبل أن تكون مهمة و وظيفة، و ما الجهاز الحكومي إلا إطار منظم و جسم تتحرك فيه العملية التعليمة و تحركه.

بناة خبراء

لا نريد اليوم معامل تفريخ تخرج خبراء في اللفظ و الحذلقة، بل نريد تلامذة، و طلبة، و مدارس و معاهد، حاملة و ليست محمولة، فاعلة لا مفعول بها، مجندة لخدمة وطنها لتحقيق الأهداف العلمية الانجازية للدولة وسط عالم مترصد ملئ بالتحديات. مهمتنا اليوم نحن الغيورين على وطننا أن نغير بما استطعنا كل هذا البؤس الأسود، و الموت الأصفر الذي يعاني منه تعليمنا. لم لا و الدنيا في أصلها حركة و تجديد و نشاط دائب، لم لا و الأمر كله منافسة و مدافعة و حيلة، لم لا و الدنيا كلها غلاب فلا نامت أعين الجبناء..

الأساتذة بناة في الصف الأول

تعانق المدرسة و الثانوية و المعهد و الجامعة معاش الشعب و همومه و مشروعاته. ترتبط بالحياة العامة، من العمل في الحقل، و المرافق الصحية، و المعمل المحلي، و التخطيط المستقبلي، و محاربة الجهل….. ليكن الأساتذة بناة في الصف الأول، و ليكن الاعتماد عليهم، بالدرجة الأولى، مدعاة لشعورهم بالمسؤولية، و الافتخار بقيادة العمل. هذا يطلب ألا تحلق البرامج و المناهج الدروس و الأدمغة في أجواء تجريدية بعيدة كل البعد عن واقعنا، بل نتنزل من سماء الخيال إلى أرض الواقع العنيد وتشمر الأكمام و الذيول، لينتج الطفل و اليافع و المعلم و الأستاذ، إلى جانب التحصيل الفكري، إنتاجا ماديا غذائيا صناعيا.

نحو مؤسسات منتجة

متى نتخلص من هذا التعليم الصوري الموروث صورة و نسخة للرخاوة العامة و الانحلال و قلة الجدوى من بذل الأستاذ و التلميذ جهده. نعم نريدها مدارس و معاهد و جامعات منتجة في كل المجالات، مستقلة ماليا بما تنتجه، غير عالة على الدولة كما هو الشأن اليوم. متعلمون أشداء على المهمات لا مثقفون ذوو بطون رخوة و عقول أجنبية. مهندسون لا ينتجون الأوراق المسطرة، و لا يملأون الاستمارات، لكن يشاركون بأيديهم إلى جانب العامل البسيط، و التقني المتوسط، في الانجاز بروح الأخوة، و الساعد القوي، و التعليم الرفيع. إداراتها يسكنها رجال مواطنون حقا، في قلوبهم هم الرقي بأمتهم و وطنهم.

مدارس لتربية الشخصية المغربية المواطنة

إن ما خلفته المدرسة الاستعمارية أن خربت تلك الشخصية المغربية الأصيلة المعجونة من طينة الفطرة السليمة آخذة بفكرة مفادها أن تغيير المجتمع من أساسه يروم بالأساس وضع نموذج لنوع الشخصية التي يراد تنشئتها. اليوم نحن في أمس الحاجة إلى مدارس أصيلة تنتج لنا شخصية صالحة للاندماج، صادقة و شجاعة، واعية بمسؤولياتها، عالمة عاملة، متميزة ظاهرا و باطنا، صامدة أمام كل إعصار، منتجة و مقتصدة….. و على ضوء هذا يجب أن تنظم و توضع البرامج و الكتب و يختار المعلمون و الأساتذة و المديرون…..

لا عجب

من دون تعليم ينطلق من التربية كركيزة أساسية، و يحمل همه رجاله، و تسخر له الخيرات و التقنيات التربوية التعليمية، فلا عجب أن يطول تخلفنا، و يزداد فقرنا و بؤسنا، و يكثر جوعانا و مرضانا، و يتنامى العاطلون فينا، و تسترخص هجرة الأوطان، و تتفشى السلبية و الخمول، و تنشأ القابلية و القبول بالدون، و التأثر بالخرافات و الدعايات السخيفة.

إليك أستاذي

اكتب كل هذا إلى المعلم و الأستاذ بالدرجة الأولى لعل بذرة إيمان تكون مطمورة تحت الركام الثقافي فيصيبها غيث الغيرة و المواطنة فتهتز و تربو. لعل أصل إيمان ينبعث و يستيقظ.