وجهة نظر

الحرب الإسرائيلية الإيرانية ومآلات التفكك الجيواستراتيجي.

قد لا يكون أمرا مبالغا فيه القول على أن الاشتباكات المتصاعدة بين إسرائيل و ايران، وما صاحب ذلك من عمليات هجومية متبادلة في المعترك الواقعي و المجال السيبراني، قد تجاوزت النطاق التقليدي للنزاعات الإقليمية، وامتدت إلى كنه الأسئلة التأسيسية المرتبطة بمستقبل النظام الدولي، وتوزيع القوة في الشرق الأوسط، وحدود الفعل الجيوسياسي للدول الوسيطة والمنظمات اللامركزية، في حقبة التلاشي التدريجي للتصور الأطلسي للأمن وبسط النفوذ.

فالحرب الإسرائيلية الإيرانية ليست وليدة لحظة انفعالية، ولا انعكاسا ميكانيكيا لحدث معزول، و انما هي انعكاس منطقي لمسار طويل من التراكمات الجيوايديولوجية، شكلت فيه إيران ما بعد 1979 تهديدا هوياتيا لإسرائيل من منظورها الأمني و التركيبي، و اعتبرت فيه طهران على أن تل أبيب هي تلك الذراع الضاربة للاستعمار الغربي في المنطقة، والامتداد الوظيفي لعقيدة الاستكبار العالمي، وفق تعبيرات الثورة الخمينية.
وفي ظل هذا الاشتباك المعقد، تتوالد مؤشرات التحول من معركة الظل إلى المواجهة المباشرة، ما يفضي إلى وضع إقليمي موسوم بارتباك التوازنات وانكشاف الهياكل الأمنية القائمة.

فالحرب الحالية لا تجري وفق منطق الكتائب النظامية أوالاشتباك الجغرافي المحدود، بل تستعمل أدوات غير متناظرة، تتراوح بين الطائرات المسيرة، والهجمات السيبرانية، والضربات الدقيقة ضد المنشات النووية والعسكرية، وهو ما يجعلها أقرب إلى نموذج الحرب الهجينة كما نظر لها الجنرال الروسي فاليري غيراسيموف، وكما استعادته بعض المقاربات الغربية المعاصرة في تصورها لميادين الصراع المركب.
وقد يغدو من نافل القول على ان الحرب الاسرائيلية الايرانية ستعيد بناء و صياغة المشهد الإقليمي برمته. إذ على المستوى الدقيق، نواكب ما يمكن تسميته بالانقلاب الهندسي في مفهوم الأمن الإقليمي، حيث تتكسر معايير الردع التقليدي، ويعاد تركيب جغرافية التحالفات، لا وفق منطق القرب الجغرافي أو التماثل الثقافي، بل وفق ما يمكن تسميته بالبراغماتية الأمنية الصرفة. فالدول الخليجية التي طالما ارتكنت إلى التحالف الأمريكي التقليدي تجد نفسها أمام مأزق إعادة التموقع، خصوصا في ظل تقاطع المصالح مع إسرائيل من جهة، والسقوط الهيكلي أمام القوة الإيرانية غير المتكافئة من جهة أخرى، ما يفرض عليها الدخول في حل معادلة بالغة الحساسية تتراوح بين تسوية النزاع أو الانخراط فيه.

كما أن هذا الصراع اصبح ينتج أثرا مضاعفا على المستويين السياسي والاجتماعي داخل عدد من الدول الاخرى، حيث ترتفع وتيرة الأمننة السياسية، وفقا لمفهوم باري بوزان، الذي أشار فيه إلى ميل الأنظمة السياسية وتحويل كل تهديد خارجي إلى مبرر يتم من خلاله تعزيز الرقابة الداخلية وتقييد الحريات، تحت لافتة الوحدة الوطنية وضرورة تحصين الجبهة الداخلية، وهو الأمر الذي قد يفضي إلى تحلل داخلي بفعل الديناميات المتغيرة في الرأسمال الاعتباري للدولة، خصوصا في السياقات التي تعاني أصلا من أزمة الشرعية أو من تصدع العقد الاجتماعي فيها.
في المقابل، تغدو بعض المحاور الجيوسياسية بمثابة مختبرات فعلية لتجريب أدوات الحرب غير المتماثلة. فوجود كيانات غير رسمية موالية لإيران، يتخذ شكل ميليشيات مدربة وممولة، يجعل من هذه الحرب حربا نيابية ممتدة، حيث تشتبك القوى في فضاء جغرافي لا ينتمي مباشرة لمركز الصراع، ما يخلق ما يمكن تسميته بلانفجار المحيطي حول القلب الاستراتيجي، ويجعل من كل الحدود الجغرافية لمنطقة الصراع، ساحة محتملة لحرب جانبية.
ولعل الأكثر تعقيدا في مشهد هذه المواجهة هو تداخلها مع البنية الطاقية العالمية. فإيران ليست فاعلا عسكريا فحسب، بل لاعبا رئيسيا في أسواق النفط والغاز، ومسيطرا فعليا ولو بشكل غير مباشر على مضيق هرمز، الذي يعبر منه حوالي 30% من إمدادات الطاقة العالمية. وبالتالي، فإن أي تصعيد ميداني أو محاولة لغلق المضيق، أو حتى التهديد به، ينعكس بشكل مباشر على أسواق الطاقة، وهو ما يتبدى في تذبذب الأسعار وصعودها الفوري إثر كل ضربة عسكرية أو عملية اغتيال مؤثرة.

كما تنعكس هذه الدينامية أيضا على بنية العلاقات الدولية. فالحرب تفرض على الولايات المتحدة الأميركية التي أعلنت في أكثر من مناسبة نيتها في الانسحاب النسبي من الشرق الأوسط أن تعيد تقييم موقعها في المنطقة. فهي من جهة مضطرة إلى دعم إسرائيل بوصفها حليفا استراتيجيا، ومن جهة أخرى حريصة على تجنب انزلاق شامل قد يجرها إلى مواجهة مباشرة مع إيران، أو يعطل أولوياتها الاسيوية في مواجهة الصعود الصيني. وهنا يظهر التوتر الداخلي في الاستراتيجية الأمريكية و يطرح السؤال حول ما اذا كانت واشنطن ستنحاز إلى نموذج التوازن الإقليمي أم إلى نموذج الردع المطلق؟
أما عن أوروبا، فهي تبدو أكثر ارتباكا، و رهينة لاحتياجاتها الطاقية من دول الخليج، وفي الوقت نفسه تخشى من موجات جديدة من اللاجئين أو من امتداد العمليات الإرهابية إلى عواصمها الكبرى. والنخب السياسية الأوروبية بحكم تركيبها الليبرالي وما تبقى من الإرث الأخلاقي لفكرة القانون الدولي لا تستطيع أن تدعم كل أشكال الرد الإسرائيلي دون تحفظ، خصوصا إذا كانت تحمل في طياتها انتهاكات جسيمة لحقوق المدنيين أو تهديدا صريحا للسيادة السورية أو اللبنانية.

وفي سياق مواز، تلتقط قوى دولية مثل الصين وروسيا خيوط هذه الأزمة، ليس بغرض الوساطة، بل بغية توسيع نفوذها الرمزي والاستراتيجي، في إطار حرب باردة ناعمة على المجال الجغرافي للنفوذ الأمريكي. فالصين تقدم نفسها كضامن للاستقرار من خلال صفقات اقتصادية وسياسية غير مشروطة، بينما تراهن روسيا على بناء تحالفات هجينة مع إيران وسوريا، تمكنها من لعب دور الحكم الميداني في أوقات الاشتباك.
وعلى ضوء كل هذه المجريات، يتبين على أن الصراع الإيراني الإسرائيلي أصبح اليوم يتجاوز التصنيفات التقليدية للصراعات الثنائية، إذ لم يعد مغتزلا في ردود أفعال عسكرية و حسابات متبادلة، بقدر ما أصبح يعبر شكلا من الانزياح الهيكلي في طبيعة التفاعلات الإقليمية، وفي طرائق إعادة تعريف الفاعلين لأنفسهم ولغيرهم. كما أن هذا الصراع يظهر مدى الصدع و التاكل الذي أصاب جزءا كبيرا في النسق السياسي العربي، ليس فقط من حيث فقدان القدرة على المبادرة، بل كذلك من حيث تعطل أدوات إعادة التموضع ضمن منظومة إقليمية أكثر تعقيدا وتداخلا.

وبينما تستثمر قوى دولية مثل روسيا والصين هذا التحول بما يخدم هندستها الخاصة لعالم ما بعد الهيمنة الغربية، تغيب الرؤية التشاركية في العديد من الدول الاخرى، التي تجد نفسها على هامش الحدث، لا لضعف الموارد وحدها، بل لغياب نموذج تأويلي قادر على فهم التحولات وفعل الاستجابة. إذ أن الديناميات الجديدة تفرض مقاربات لا تكتفي بتفسير الحقائق الحاصلة من داخل منطق الردع أو التوازن، بل تنظر إلى الانساق الدلالية، والانتماءات السياسية، والتمفصل بين الهوية السياسية و التموضعات الخطابية التي تعمل على بناء الواقع و توجيه الإدراك الجمعي.

وإذا كان من الممكن تحليل هذه الحرب بوصفها اختبارا ميدانيا لتوازنات القوى، فإنها في العمق تمثل لحظة حرجة في تاريخ الشرق الأوسط، يتواجه فيها التفكك الداخلي للمنظومات العربية مع إعادة هيكلة مفاهيم النفوذ والسيادة والانتماء. ومن هنا، فإن الحديث عن نتائج هذه الحرب لا يمكن فصله عن سؤال بالغ التأثير حول الجهة القادرة على إنتاج بنية سياسية تؤطر الواقع بأثر واضح، يتم من خلالها التأثير داخل وخارج الحدود، دون الارتهان لإرادة الأخر أو لتداعيات اللحظة العسكرية.

فالخلاصة التي يمكن استخلاصها، دون الانحياز لأي طرف أو السقوط في إغراء التبسيط، هي أن الصراع الجاري يعيد ترتيب معادلة القوة في المنطقة، ويعاد مجددا إشكال التواري في لحظة فارقة تتعاظم فيها الحاجة إلى بلورة تصور استشرافي رصين، يتجنب الفعل السياسي السقوط في هوامش الالتباس الجيوزمني، ويكفل إعادة التموضع الواعي ضمن هندسة تشاركية للعلاقات الدولية، تنأى عن الارتجال الظرفي وتؤسس لمنطق التدخل العقلاني المتعدد المستويات. والتخطيط التاريخي البعيد المدى. وحين يغيب الفعل المتبصر وتتأخر الاستجابة، تتحول الجغرافيا إلى مجال مفتوح لإرادات خارجية، ويصبح التاريخ مسرحا تكتب فيه مناقب تفوق ذات أصحاب الحق والأرض.

.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *