سبحان من جعل بورديو صهيونيا وماكس فيبر عضوا في الموساد!

في سياق عربي مأزوم تتكاثر فيه أشكال التواطؤ الناعم، تخرج علينا بعض الأصوات الأكاديمية لتحاضر في الفضيلة العلمية، وتدين المقاطعة باعتبارها جهلا. وكأن من يرفض التطبيع لا يفهم في نظريات دوركايم، أو أن فلسطين نفسها قضية تافهة أمام “هيبة العلم”.
تدوينة هذا الأستاذ ليست موقفا علميا، بل انخراطا في منطق سياسي قديم يرتدي عباءة “الحياد الأكاديمي”. إنها إعادة إنتاج لخطاب يُجرم الفعل السياسي الرافض للتطبيع، ويُجمل علاقات القوة باسم الموضوعية. والواقع أن كل خطاب يُجرد العلم من سياقاته السياسية هو في جوهره سياسي بامتياز، لكنه ينكر ذلك بتعالي خطابي.
لكن دعونا نضع الأمور في سياقها الحقيقي: السوسيولوجيا، منذ نشأتها الحديثة، لم تكن علما معقما من الصراعات، بل كانت دائما مرآة للاحتكاك مع السلطة، ومع علاقات الهيمنة. من بورديو الذي كتب ضد هيمنة النخب وسياسات الدولة الفرنسية، إلى إدوارد سعيد الذي فضح الاستشراق الأكاديمي باعتباره امتدادا للسيطرة الاستعمارية، إلى الباحثين اللاتينيين في مدرسة ديكولونيالية المعرفة الذين رأوا في العلم أداة للهيمنة أو للتحرر.
أما فلسطين، فقد ألهمت مفكرين وعلماء اجتماع من مواقع مختلفة، ليس آخرهم جوديث بتلر، التي اعتبرت أن دعم النضال الفلسطيني ضرورة أخلاقية وفكرية، رغم كونها يهودية. ألم يكن جون هولواي أحد الذين قالوا إن “الثورة لا تُفكر فقط، بل تُمارس ضد النظام الرمزي الذي يصنعه العلم الرسمي”؟
من يدعي أن الدفاع عن فلسطين لا علاقة له بعلم الاجتماع، يجهل أن هذا العلم وُلد من رحم الصراع الطبقي، وتغذى من مقاومات الشعوب، لا من صالات الفنادق الدولية ولا من الندوات المعقمة.
ثم ننتقل إلى فاصل من الكوميديا الأكاديمية: أن مقاطعة المنتدى جهل لأن “فيه يهود”، وأن علم الاجتماع أُنتج على يد يهود ومسيحيين، فكيف نجرؤ على مقاطعته؟ سبحان من جعل بورديو صهيونيا، وماكس فيبر عضوا في الموساد! لقد أصبح الدفاع عن الكرامة الوطنية “لا علميا”، والموقف الأخلاقي “سذاجة”.
لكن مهلا، لم يخبرنا الأستاذ: إن كان العلم من إنتاج الغرب، فهل علينا أن نصمت حتى تُنجز جامعة تل أبيب دراسة عن صمود غزة لنبدأ في احترام المقاومة؟ أم ننتظر موافقة الهيئة العليا لعلم الاجتماع النيتشوي لنقول: هذا كيان قاتل؟
لا أحد يطلب من الأستاذ أن يحمل شعلة الثورة، لكن قليلا من الاتساق لا يضر. فمن يرفض المشاركة لأسباب “شخصية”، ثم يهاجم من قاطع لأسباب سياسية، كمن رفض حضور حفلة، ثم شتم كل من لم يحضر لأنه “لا يفهم في الموسيقى الكلاسيكية”.
العلم ليس فوق السياسة، بل يتغذى منها، والحياد في زمن القتل هو انحياز ناعم. لذلك، فحين يُسحب من تحت أقدامنا الموقف، يُعوض بكومة مصطلحات: الحياد الأكسيولوجي، فيبر، دوركايم، سترواس… وكأن القضية ليست فلسطين، بل ندوة في ستراسبورغ عن إشكالية السلوك في المجتمعات القروية!
علم الاجتماع الذي لا يسمع صراخ الأطفال تحت الردم، عليه أن يراجع أدواته.
اترك تعليقاً