وجهة نظر

نزيف الجزائر الداخلي .. من الصحراء إلى العزلة

تشهد الجزائر في السنوات الأخيرة حالة متزايدة من النزيف الداخلي، تتجلى في أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية متراكمة، لا يمكن فصلها عن الدور المحوري الذي تلعبه قضية الصحراء في صياغة توجهات سياستها الخارجية. فقد تحول النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية إلى رافعة تستخدمها السلطة الداخلية، مما جعله مصدر استنزاف مستمر للموارد الجزائرية، وساهم في تدهور النسيج الاجتماعي، وتعطيل الإصلاحات الضرورية، وانسداد الأفق السياسي.

تطرح الدراسة إشكالية مركزية تتمحور حول مدى انسجام الخطاب السياسي الجزائري الرسمي بشأن دعم “تقرير المصير” في الصحراء مع ممارساته التي تخالف مبدأ احترام سيادة الدول.

ولتناول هذه الإشكالية، تستعرض الدراسة مجموعة من الأسئلة الفرعية التي تؤطر بحثها:

1- كيف نشأ وتطور الخطاب الجزائري بشأن الصحراء؟
2- ما هي الممارسات الميدانية الجزائرية الداعمة لجبهة البوليساريو؟
3- كيف أثر هذا التناقض على مكانة الجزائر إقليميًا ودوليًا؟
4- ما هي التداعيات الداخلية لهذا التوظيف السياسي للنزاع الصحراوي؟

من خلال مناقشة هذه الأسئلة، تهدف الدراسة إلى تقديم رؤية نقدية تبرز مخاطر استمرار هذا المسار، وتؤكد على الحاجة الملحة لإعادة النظر في الخيارات الاستراتيجية للجزائر، بما يضمن حماية مصالح شعبها ويوقف النزيف الداخلي الذي يهدد مستقبل البلاد.

المحور الأول: الجذور الجيوسياسية والرهانات الإقليمية في الخطاب الجزائري حول الصحراء
يتغذى الموقف الجزائري من قضية الصحراء المغربية من خليط معقد من العوامل التاريخية والجيوسياسية التي تتجاوز بكثير الشعارات المعلنة حول “تقرير المصير” أو “مساندة حركات التحرر”. فبعد الاستقلال في 1962، تبنت الجزائر خطابًا أمميًا يدّعي الانحياز لقضايا التحرر الوطني، مستثمرة في رمزية تجربتها الثورية. غير أن هذا الخطاب لم يكن بريئًا أو محايدًا، بل كان منذ البداية أداة استراتيجية لتعزيز نفوذ إقليمي متصاعد، في سياق الحرب الباردة والتنافس المغاربي على الزعامة.

فمنذ السبعينيات، كان واضحًا أن الدعم الجزائري لجبهة البوليساريو لم ينبع من التزام مبدئي بحقوق الإنسان، وإنما كان يرتبط في جوهره برغبة واضحة في تحجيم الدور الإقليمي للمغرب، ومنعه من بسط نفوذه على عمقه الإفريقي، لا سيما بعد أن أصبح المغرب، عبر صحرائه، يمتلك بوابة طبيعية نحو إفريقيا جنوب الصحراء. وفي هذا السياق، يصبح احتضان الجزائر لحركة انفصالية مجرد وسيلة لإضعاف المغرب، وتعطيل استراتيجيته التنموية في الجنوب.

لكن الأهداف الجزائرية لا تقف عند حد قطع الطريق على المغرب نحو إفريقيا، بل تتعداها إلى طموح جيوستراتيجي كبير ظل غير معلن بشكل صريح: الوصول إلى المحيط الأطلسي. فالدولة الجزائرية، المحاصرة جغرافيًا بين الصحراء الكبرى شمالًا ومالي والنيجر جنوبًا، تدرك أن امتلاك منفذ بحري أطلسي من شأنه أن يُعزز حضورها التجاري والعسكري في غرب إفريقيا، ويفتح لها آفاقًا جديدة في ممرات الملاحة الدولية. ولهذا السبب، كانت دائمًا تدفع في اتجاه خلق كيان “مستقل” في الصحراء المغربية يمكن أن يكون تابعًا لها وظيفيًا، ويمنحها موطئ قدم في الأطلسي.

إضافة إلى ذلك، يُستخدم هذا الصراع المفتعل كوسيلة لإبقاء المغرب منشغلاً بالنزاع على وحدته الترابية، بهدف منعه من إعادة طرح ملف الصحراء الشرقية، وهي الأراضي المغربية التي اقتطعها الاستعمار الفرنسي وضُمّت إلى الجزائر زمن الحماية. وهذا البُعد التاريخي كثيرًا ما يُغيب في التحليل السياسي، رغم أن تصريحات مسؤولين جزائريين — ومنهم الجنرال السعيد شنقريحة — أكدت صراحة أن قضية الصحراء تدخل في إطار “الأمن القومي الجزائري”، في تلميح صريح إلى الأبعاد الترابية والسيادية الحقيقية وراء هذا النزاع.

إن استحضار هذه الخلفيات يعيد تركيب الصورة بطريقة أكثر وضوحًا: فالجزائر لا تدافع عن مبدأ، بل عن مشروع سياسي استراتيجي متكامل، قوامه إضعاف المغرب، وتوسيع النفوذ، والتحصين الجغرافي. وفي هذا السياق، تصبح الشعارات المرفوعة حول “تقرير المصير” مجرد غطاء دعائي لا يصمد أمام تفكيك الأدلة التاريخية والمعطيات الجيوسياسية التي تُظهر أن دعم البوليساريو كان، ولا يزال، خيارًا براغماتيًا هجوميًا ضمن عقيدة الدولة الجزائرية في الصراع على الزعامة المغاربية.

المحور الثاني: تناقض الممارسة الجزائرية مع مبدأ السيادة وعدم التدخل
تُعد الجزائر من الدول التي طالما رفعت شعار احترام سيادة الدول ورفض التدخل في شؤونها الداخلية، بل إن هذا المبدأ يُعد من المرتكزات الأساسية التي تُوظَّف باستمرار في خطابها الدبلوماسي، خاصة في المحافل الدولية والإقليمية. غير أن الممارسة الواقعية للسياسة الخارجية الجزائرية، خصوصًا فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية، تُظهر مفارقة صارخة بين ما تُعلنه الجزائر نظريًا، وما تنفذه عمليًا على أرض الواقع.

منذ بداية الصراع الإقليمي حول الصحراء المغربية في سبعينيات القرن الماضي، لم تكتف الجزائر بمجرد الدعم السياسي لجبهة البوليساريو، بل تحولت إلى الفاعل الأساسي في تكريس النزاع من خلال توفير الدعم المالي، والغطاء الدبلوماسي، والتدريب العسكري لعناصر الجبهة. كما أن تواجد قيادة البوليساريو داخل التراب الاداري الجزائري، وبالضبط في مخيمات تندوف، وتحركها بحرية تحت الحماية الجزائرية، يُعدّ في حد ذاته شكلًا من أشكال التورط المباشر في نزاع إقليمي مع دولة جارة.

وتتجلى مظاهر هذا التناقض أيضًا في الرفض المتكرر من الجزائر لأي صيغة تفاوضية تعتبرها طرفًا مباشرًا في النزاع، رغم أن قرارات مجلس الأمن وبيانات الأطراف الدولية تؤكد أن الجزائر ليست مجرد بلد “مضيف”، بل فاعل رئيسي في النزاع ومساهم فعلي في تأجيجه واستمراره. هذا التهرب من المسؤولية يُكرّس ازدواجية في الموقف الجزائري، إذ تسعى الجزائر لتقديم نفسها كوسيط أو مراقب، في حين أن دورها يتجاوز ذلك بكثير.

كما أن الجزائر تبنّت بشكل رسمي ما تسميه بـ”حق تقرير المصير”، لكنها تختزل هذا الحق في حالة واحدة فقط، هي حالة الصحراء المغربية، بينما تتجاهل أو ترفض أي حركات انفصالية داخل أراضيها، سواء في منطقة القبائل أو في الجنوب كما تسوق لنفسها أنها راعية للسلام ووحدة الدول. هذه الانتقائية في تطبيق المبدأ تكشف أن “تقرير المصير” ليس سوى شعار يُستخدم لأغراض سياسية، لا التزامًا بمبدأ إنساني أو قانوني.

إضافة إلى ذلك، تُسجَّل خروقات متعددة في المخيمات التي تُسيطر عليها جبهة البوليساريو داخل التراب الإداري الجزائري، بما في ذلك الحرمان من الجنسية الجزائرية، ومنع حرية التنقل، وتقييد وصول المنظمات الدولية، وهي ممارسات تُخالف التزامات الجزائر الدولية تجاه اللاجئين. بل إن الأمم المتحدة نفسها تشتكي من عراقيل لوجستية عند تنفيذ مهامها الإنسانية في هذه المناطق، وهو ما يعكس تواطؤًا صريحًا من السلطات الجزائرية في تأبيد وضع غير قانوني وغير إنساني.

في المحصلة، فإن السياسة الخارجية الجزائرية في هذا السياق تكشف عن تناقض واضح بين المبدأ والممارسة: فهي ترفض التدخل حين يكون في غير مصلحتها، لكنها لا تتردد في التدخل حين ترى في ذلك فرصة لإضعاف المغرب أو لتوسيع نفوذها الإقليمي. هذا التناقض أفقد الجزائر جزءًا مهمًا من مصداقيتها على المستوى الدولي، وأضعف قدرتها على لعب أدوار إقليمية فاعلة، في وقت تتغير فيه المعادلات الجيوسياسية بسرعة، ويُعاد فيه تشكيل خريطة التحالفات والمصالح في إفريقيا والعالم العربي.

المحور الثالث: التداعيات الداخلية لتناقضات الخطاب والممارسة في السياسة الجزائرية تجاه الصحراء
إن استمرار السياسة الجزائرية القائمة على ازدواجية الخطاب والممارسة في ملف الصحراء المغربية لا يقتصر تأثيره على الساحة الإقليمية والدولية فحسب، بل ينعكس بعمق على المشهد الداخلي الجزائري، مما يولد أزمات متعددة الأوجه تضع النظام السياسي تحت ضغط متزايد.

أولًا، إن توظيف ملف الصحراء كرافعة سياسية داخلية يأتي على حساب معالجة قضايا اجتماعية واقتصادية ملحّة تواجهها الجزائر. فبينما تُصرف موارد ضخمة لدعم جبهة البوليساريو، وتُخصص أموال طائلة من خارج أي رقابة أو شفافية، تتفاقم الأزمات الحقيقية في الداخل مثل ارتفاع معدلات البطالة، وتآكل الاحتياطات من العملة الصعبة، وتراجع مستوى الخدمات العامة.
هذه المفارقة بين الخطاب الرسمي الذي يُركّز على “القضايا الوطنية الكبرى” وبين الواقع الاجتماعي المُتأزم، تُعمّق فجوة الثقة بين المواطن والدولة، وتُثير تساؤلات حقيقية حول أولويات السياسات العمومية في الجزائر.

ثانيًا، ساهم هذا الواقع في تعزيز حالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي داخل الجزائر، حيث ارتفعت وتيرة الأصوات المنتقدة للسياسات الخارجية المكلفة، التي يُنظر إليها على أنها تُشتت انتباه السلطة عن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية. إن استمرار دعم نزاعات خارجية يُعتبر، من منظور شريحة كبيرة من الجزائريين، سببًا رئيسيًا في إطالة أمد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، التي لا تزال تفتقر إلى حلول جذرية أو رؤية استراتيجية متكاملة.
وقد أدى هذا الوضع إلى اتساع دائرة الاحتقان داخل المجتمع، وانخفاض منسوب الثقة في مؤسسات الدولة، خصوصًا في ظل غياب أفق إصلاحي واقعي يراعي أولويات المواطن الجزائري.

ثالثًا، تندرج هذه الأزمة في سياق استمرار هيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي في الجزائر، حيث تُعتبر القيادة العسكرية الفاعل الرئيسي في تحديد توجهات السياسة الخارجية، لا سيما في ملف الصحراء.
وترى العديد من الأوساط التحليلية أن هذه الهيمنة تُسهم في تكريس الانغلاق السياسي، وتُعيق تبني سياسات براغماتية تأخذ بعين الاعتبار المصالح الجزائرية الحقيقية، بعيدًا عن الاعتبارات الأيديولوجية والمواقف الانفعالية. وتجد القيادة العسكرية، التي راكمت دورًا محوريًا في حماية النظام، في استمرار دعم البوليساريو مبررًا لإبقاء حالة التأهب الداخلي، وتبرير تأجيل الإصلاحات الهيكلية التي يطالب بها الشارع.

رابعًا، يترافق هذا مع أزمة الهوية الوطنية الجزائرية التي لم يتمكن النظام، رغم محاولاته، من إيجاد قاعدة مشتركة جامعة لجميع مكونات الشعب. ويُستخدم استمرار الانخراط في نزاعات خارجية، وعلى رأسها قضية الصحراء، كأداة لتجنب مواجهة الانقسامات الداخلية، وإعادة إنتاج خطاب الثورة والوحدة كوسيلة للحفاظ على شرعية النظام. لكن هذا التوجه يثير قلق العديد من المراقبين الذين يرون أن استمراره قد يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتعميق الانقسامات.

خامسًا، من الزاوية الاقتصادية، لا يمكن إغفال أن سياسة الجزائر الخارجية تجاه قضية الصحراء قد أضرت بعلاقاتها التجارية والاستثمارية، خاصة مع دول باتت تنظر إلى هذا الموقف كعائق أمام تعزيز التعاون الإقليمي. كما أن ما تواجهه الجزائر من عزلة دبلوماسية وعقوبات غير مباشرة في بعض المحافل الدولية، ساهم في تقويض بيئتها الاستثمارية وتقليص فرص النمو والتنمية المستدامة.

في الختام .. عكس ازدواجية الموقف الجزائري من نزاع الصحراء المغربية تراجعًا واضحًا في مصداقية الجزائر على الساحة الدولية، وتفاقمًا لأزماتها الداخلية. فاستمرار الخطاب الثوري في مقابل ممارسات تُكرّس العزلة والانغلاق، يُضعف القدرة الوطنية على مواجهة تحديات التنمية والاستقرار. كما أن هيمنة المؤسسة العسكرية على القرار السياسي، وتشَبُّثها بسياسات العداء الإقليمي، تُعيق أي تحول إصلاحي حقيقي يمكن أن يُعيد رسم أولويات البلاد لصالح شعبها.

وبلا شك، إذا لم تُراجع الجزائر خياراتها وتكسر منطق الاستنزاف الخارجي، فإن مسار التراجع والاضطراب سيستمر، وربما يتعمق أكثر إلى عواقب وخيمة؛ فلا ولن يُصلح حينها العطار ما أفسده العسكر.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *