من التنمية البشرية إلى الدولة الاجتماعية.. مسار 26 سنة من سياسات ملكية مرتكزها الإنسان

قبل ست وعشرين سنة، وتحديدا في يوليوز 1999، دخل المغرب مرحلة جديدة من تاريخه السياسي والاجتماعي، مع اعتلاء الملك محمد السادس العرش خلفا لوالده الملك الراحل الحسن الثاني. ومنذ اللحظة الأولى، بدا واضحا أن العهد الجديد سيكون مختلفا، ليس فقط في أسلوب القيادة، ولكن في عمق التوجهات واختيارات الدولة. فقد رسم الملك محمد السادس معالم مشروع مجتمعي أساسه العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والتضامن، وهي المرتكزات التي شكلت نواة لبناء ما أصبح يعرف اليوم بـ”الدولة الاجتماعية”.
ومن أبرز المحطات التي شكلت نقطة تحول في الرؤية الاجتماعية للدولة تحت إشراف الملك محمد السادس، إطلاق “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” سنة 2005. لم يكن المشروع مجرد برنامج لمحاربة الفقر، بل فلسفة جديدة لتصور التنمية من زاوية الإنسان. فقد تبنت المبادرة مقاربة تشاركية، ترتكز على دعم المشاريع الصغرى، وتأهيل البنيات التحتية في العالم القروي، وتحفيز الشباب على خلق أنشطة مدرة للدخل، وتعزيز كفاءات النساء في وضعية هشاشة.
وقد حققت المبادرة الملكية، في مراحلها الثلاث، مئات الآلاف من التدخلات في مجالات الصحة والتعليم والتمكين الاقتصادي، مغيرة وجه الحياة اليومية لملايين المواطنين، خاصة في المناطق القروية والنائية.
في خطاب العرش لسنة 2020، أعلن الملك محمد السادس عن إطلاق ورش غير مسبوق لتعميم الحماية الاجتماعية على جميع المغاربة، في أجل لا يتجاوز خمس سنوات. خطوة اعتبرها كثيرون جريئة في سياق وطني ودولي صعب، لكنها عكست بوضوح الإرادة الملكية لجعل الرعاية الاجتماعية ركيزة للعدالة المجتمعية.
وشكلت سنة 2025 أيضا مرحلة مهمة في تفعيل قانون الحماية الاجتماعية، الذي بدأ يؤسس لمنظومة وطنية متكاملة تتضمن التغطية الصحية، والتعويضات العائلية، والتقاعد، والتعويض عن فقدان الشغل. وتم إرساء هيئة وطنية موحدة للإشراف على هذه المنظومة، من أجل تحسين الحكامة وضمان الالتقائية بين البرامج المختلفة.
وقد تم بالفعل، خلال السنوات الماضية، توسيع التأمين الإجباري عن المرض ليشمل العمال غير الأجراء، والفئات المعوزة التي كانت تستفيد سابقا من نظام “راميد”، كما أطلقت الحكومة برنامجا لتعميم التعويضات العائلية، وتطوير نظام التقاعد لفائدة غير المأجورين والعمال المستقلين، وتفعيل السجل الاجتماعي الموحد لتحديد المستحقين للدعم على أسس شفافة وفعالة.
ما ميز هذه الإنجازات، هو المتابعة المباشرة من طرف الملك محمد السادس، الذي ترأس عددا من المجالس الوزارية وجلسات العمل لمواكبة سير هذه الإصلاحات، مؤكدا في خطاباته المتكررة على أن بناء الدولة الاجتماعية ليس قرارا ظرفيا، بل خيار استراتيجي يؤسس لمغرب جديد، يقوم على العدالة والإنصاف والتضامن.
في سنة 2025، لم تعد الدولة الاجتماعية مجرد تصور نظري، بل أصبحت واقعا ملموسا في حياة ملايين المغاربة، من خلال تعميم التغطية الصحية، الدعم المباشر، السكن اللائق، والتعليم المتكافئ. إنها سنة فارقة في مسار إصلاحي طويل، يقوده ملك آمن بأن قوة الدولة تبدأ من تمكين المواطن.
كل هذه الإجراءات تجسد ما أصبح يعرف بـ”الدولة الاجتماعية”، التي لا تكتفي بضمان الحقوق الأساسية نظريا، بل تسعى إلى تنزيلها ميدانيا، بإصلاح منظومات التعليم، والصحة، والرعاية، وتحديث الإدارة، وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي.
خلال أكثر من عقدين من الزمن، لم تكن المبادرات الملكية تقتصر على السياسات الأفقية، بل كانت تنبثق من عمق الواقع الاجتماعي. فمنذ سنواته الأولى، حرص الملك محمد السادس على أن يكون قريبا من الفئات الأكثر هشاشة، زائرا للقرى النائية، ومتفقدا لأوضاع المواطنين في الأحياء المهمشة، ومستحضرا صوت المعاناة في توجيهاته للحكومة والإدارة والمؤسسات العمومية.
في كل مرة تضرب فيها فاجعة أو كارثة طبيعية منطقة ما بالمملكة، يكون الملك محمد السادس أول مبادر للوقوف على حجم الأضرار، وتوجيه جهود الإغاثة وتقديم واجب المواساة. كما حصل مع قصة الطفل ريان التي هزت ملايين المغاربة، وزيارته المفاجئة للضحايا، من زلزال الحسيمة سنة 2004 إلى فاجعة الحوز سنة 2023، وهي أحداث تظل شاهدة على ملك يرى في القرب من الشعب مسؤولية قبل أن تكون رمزية
إلى جانب المشاريع الكبرى، حرص محمد السادس على ترسيخ البعد الإنساني في السياسات العمومية. فقد شجع على إنشاء مؤسسات رعاية الطفولة، ودور العجزة، ومراكز تأهيل ذوي الإعاقة، ومكفولي الأمة، وسن قوانين لحماية الأشخاص في وضعيات هشاشة. كما واصل دعم مؤسسة محمد الخامس للتضامن، التي أصبحت فاعلا محوريا في التدخلات الاجتماعية والإغاثية.
المبادرات الملكية شملت أيضا إطلاق صندوق “دعم الأرامل”، وتوسيع برامج المنح الجامعية، وتوفير دعم مباشر للأسر الفقيرة، إضافة إلى إصلاح نظام الكفالة للأطفال المهملين، وتطوير البنيات المخصصة لإعادة إدماج السجناء.
لم يقتصر البعد الإنساني في سياسة محمد السادس على الداخل فقط، بل أصبح سمة للدبلوماسية المغربية. فقد دأب المغرب على إرسال مساعدات طبية وغذائية إلى عدد من الدول المتضررة، سواء في إفريقيا أو في مناطق أبعد، مثل فلسطين ولبنان وهايتي وتركيا. كما حرص الملك على دعم الطلبة الأفارقة، واحتضانهم في الجامعات المغربية، وتجسيد سياسة تضامنية حقيقية مع دول الجنوب.
يمكن القول إن سنة 2025 كانت سنة ترسيخ واقعي لمفهوم الدولة الاجتماعية، وتحقيق اختراقات كبرى في ورش الحماية والدعم والتكافؤ. فبفضل الرؤية الملكية ، انتقل المغرب من منطق المساعدة الظرفية إلى سياسة اجتماعية مهيكلة، عمادها الاستهداف الدقيق، والعدالة في توزيع الدعم، والكرامة في الولوج إلى الخدمات.
بعد ست وعشرين سنة من الحكم، لا يمكن فصل مسار الملك محمد السادس عن تحولات كبرى شهدها المجتمع المغربي. فرغم التحديات المرتبطة بالفوارق الاجتماعية، وسؤال العدالة المجالية، وتعقيدات تنفيذ بعض السياسات، فإن المغرب تمكن من وضع أسس دولة اجتماعية قادرة على حماية الفئات الهشة، وتحقيق قدر أكبر من الإنصاف والتكافؤ.
وقد يكون من المبكر تقييم الأثر الكامل لهذا التوجه، لكنه يمثل، بلا شك، انتقالا عميقا من نموذج اقتصادي يعتمد على المؤشرات، إلى نموذج مجتمعي يعتبر الإنسان هو الغاية والوسيلة.
إنها إذن محطة جديدة في مسار طويل، يقوده ملك جعل من الإنصاف الاجتماعي جوهر النموذج التنموي الجديد، ومن الإنسان بوصلة كل إصلاح..إنها مسيرة ملك آمن أن التنمية الحقيقية تبدأ من كرامة المواطن، وأن بناء دولة قوية يبدأ من بناء مجتمع متماسك وعادل.
اترك تعليقاً