من الجهاد البحري إلى النهضة العمرانية.. واد أبي رقراق يروي حكاية تحفة طبيعية وسياحية بقلب المملكة

يعد واد أبي رقراق من أبرز المعالم الطبيعية في المغرب، ورمزا للجمال الحضري الذي يجمع بين سحر الطبيعة وعبق التاريخ، إذ يمتد الوادي بين مدينتي الرباط وسلا، ليشكل حدا طبيعيا يفصل بينهما، وفي الوقت ذاته جسرا ثقافيا وسياحيا يربط ضفتيه بالحياة والنشاط.
يتميز واد أبي رقراق بموقعه الجغرافي الفريد، حيث يصب في المحيط الأطلسي عند نقطة تجمع بين المشهد البحري والأثري، مطلا على معالم خالدة مثل قصبة الأوداية وبرج الصقالة، إضافة إلى صومعة حسان وموقع شالة الأثري، هذا المزج بين الطبيعة والتاريخ يجعل المكان فضاء مثاليا للتنزه والاستمتاع.
في السنوات الأخيرة، أصبح الوادي مقصدا سياحيا وترفيهيا، بعد إنشاء مساحات خضراء فسيحة على ضفتيه، وممرات للمشاة والدراجات، ومرافق ثقافية وفنية، إلى جانب المسرح الكبير للرباط الذي يُعد الأكبر بإفريقيا، وبرج محمد السادس الأطول بالمغرب.
ويشكل ملاذا للعائلات ومحبي الرياضة والهدوء، خاصة عند غروب الشمس، حين ينعكس نور السماء على صفحة الماء في مشهد خلاب يأسر الأنظار، كما يستقطب الزوار رحلات القوارب التقليدية بين الرباط وسلا، والتي أصبحت رمزا من رموز الوادي.
جذور تاريخية عميقة
يعتبر الدكتور نور الدين بالحداد، أستاذ التعليم العالي في تاريخ المغرب المعاصر، أن واد أبي رقراق ليس مجرد مجرى مائي، بل هو نهر ذو جذور تاريخية غنية، ومصدر غني لفهم تحولات الأمة المغربية.
وكشف الخبير التاريخي أن هذا الوادي كتب عنه الكثير ودُوِّن اسمه في سجلات العديد من الدول بأوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا والعالم العربي، نظرا لما شهده من أحداث سياسية وحضارية مهمة.
فالوادي يمتد الوادي لأكثر من 250 كيلومترا، وعرف وجود الفينيقيين والرومان والقرطاجيين الذين تحدثوا عن خيراته وثرواته السمكية وعن موقعه الاستراتيجي المطل على المحيط الأطلسي، حيث كان نقطة عبور حيوية نحو السهول الأطلسية وبوابة للجهاد والدفاع ضد القرصنة البحرية.
ويضيف بالحداد أن الجهاد البحري لسلا ذاع صيته حتى وصل إلى ستوكهولم وكوبنهاغن وكندا وأمريكا، وامتد إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، حيث كانت هذه الإنجازات التاريخية مصابيح تنير الطريق لفهم العديد من المحطات التاريخية التي شهدها الوادي.
مركز تجاري عالمي
لعب وادي أبي رقراق دورا مهما في النشاط التجاري، حيث كانت ترسو على ضفافه سفن من فرنسا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وجنوة ولشبونة ومارسيليا، محملة بالبضائع لتفريغها على ضفاف الوادي، واستقبال المنتجات المغربية، مثل التمور والفواكه الجافة وزيت الزيتون، إضافة إلى شحنات الذهب والعاج والريش والجلود القادمة من السودان الغربي.
كما استقبل الوادي الموريسكيين، وهم المسلمون المطرودون من الأندلس، فاستقروا في الرباط، لتنشأ على ضفتيه علاقات فنية ومعمارية تمزج بين الفن العربي والإسلامي واليهودي والأمازيغي.
فكان الوادي بمثابة قنطرة عبور بين ضفتيه نحو المدينة التاريخية سلا، وإلى العدوة الرباط التي اشتهرت بأزقتها التقليدية، وحركتها التجارية، ومعمارها الفني الأندلسي، وأشعارها وثقافتها وأغانيها وتراثها الموسيقي، سواء كان الطرب الغرناطي، أو طرب الآلة، أو فن الملحون، وقد أقيمت علاقات وطيدة جمعت بين ضفتي هذا النهر في نسيج اجتماعي متماسك.
أبي رقراق في كتب التاريخ
يرى الدكتور طارق القطيبي، الباحث والمتخصص في الدراسات الأندلسية، أن هذا النهر الذي ينبع من جبال الاطلس المتوسط شكل عنصرا بارزا ومهما في الجغرافيا المغربية كما عرضتها كتب التاريخ.
وأبرز القطيبي في تصريح لجريدة “العمق”، أن أبوعبيد البكري وصف الوادي في كتابه “المسالك والممالك” بأنه “نهر يفصل بين مدينتي سلا والرباط، ماؤه عذب صالح للشرب، وتُسقى منه الزروع، وتكثر به القوارب لعبور الناس بين الضفتين”.
أما الشريف الإدريسي فقد أشار في كتابه “نزهة المشتاق” إلى “غزارة مياهه وجريانه في بلاد المصامدة، وأنه يصب في البحر المحيط عند سلا”، مشيدا بخصوبة أراضيه وكثرة بساتينه”، يضيف المتحدث.
كما تطرق كتاب “الروض المعطار” لصاحبه الحميري لهذا الوادي، مشيرا إلى أنه “نهر مشهور عذب، تُقام عليه مساقي عظيمة، وتكثر على ضفافه زراعة قصب السكر وسائر الغلات، وأن مصبه يُعد مرسى عامرًا تأوي إليه المراكب”.
فيما ركز مؤرخ الدولة العلوية أبو القاسم الزياني في مؤلفه “الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا”، على القيمة الاستراتيجية لهذا الوادي، حيث اعتبره “موردا مائيا مهما، تحف به القبائل، وتقع على ضفتيه مسالك وطرق رئيسية تصل بين سلا وفاس ومكناس”.
وخلص القطيبي إلى أنه لا يمكن الحديث عن تاريخ وجغرافية الرباط وسلا دون الحديث عن نهر أبي رقراق الذي يفصل بينهما ويشكل قي الوقت ذاته رافدا حقيقيا للأنشطة التجارية والزراعية التي كانت في الماضي قبل أن تتحول اليوم إلى معلمة بارزة.
نهضة عمرانية برؤية ملكية
شهد الوادي تحولات عمرانية مهمة بفضل رؤية الملك محمد السادس، شملت تهيئة ضفتيه وتطوير البنيات التحتية، وتحسين جودة الحياة من خلال مساحات خضراء، ومسارات للمشاة والدراجات، ومرافق ثقافية وترفيهية، مما ساهم في تعزيز جاذبيته وتحويله إلى قطب حضري بامتياز.
من أبرز هذه المشاريع، تبرز مارينا أبي رقراق ومارينا سلا، اللتان أعطتا دفعة قوية للقطاع السياحي والترفيهي، وجعلتا من ضفتي الوادي وجهة مفضلة للزوار المغاربة والأجانب على حد سواء.
كما ساهمت هذه التحولات في تحسين جودة الحياة بالمنطقة، من خلال خلق فضاءات خضراء، ومسارات للمشاة وراكبي الدراجات، ومرافق ثقافية وترفيهية مفتوحة في وجه العموم.
وفي هذا الصدد، يرى الدكتور بلحداد أن هذا المشروع لا يعكس فقط طموحا عمرانيا فقط، بل هو تعبير صريح عن إرادة ملكية لجعل المجال الحضري في خدمة المواطن، عبر ضمان التوازن بين التوسع العمراني والحفاظ على البيئة، واحترام الخصوصيات التاريخية والمعمارية للمنطقة، خاصة وأن وادي أبي رقراق يعد شريانا حضاريا يربط بين مدينتي الرباط وسلا، ويختزن إرثا تاريخيا غنيا.
ويتحدث بالحداد بحنين عن أيام شبابه في السبعينات مع واد أبي رقراق بحكم أنه ابن الرباط، بحيث كان يسبح في الوادي، ويعبر جسوره، ويلعب الكرة على ضفافه، مشيرا إلى أن المشهد اليوم أصبح أكثر جمالية وحضارة وحداثة بفضل المشاريع الكبرى التي أطلقها الملك، مثل برج محمد السادس والمسرح الكبير للرباط والمنشأت الثقافية والموانئ الترفيهية والبنية التحتية الحديثة.
كما يرى الدكتور القطيبي أنه من البديهي أن يتم استثمار المعطى الجغرافي والاستراتيجي لأبي رقراق في مغرب اليوم الذي ينحى منحى غير مسبوق في جعل ضفة النهر عاملا أساسيا للجذب السياحي والتسويق التجاري من خلال المشاريع الضخمة التي هي في طريق تأثيث الضفتين معا، وهذا ما يتمظهر من خلال برج محمد السادس والمسرح الكبير والحدائق المتنوعة المحيطة به.
إضافة إلى ذلك، يشير المتحدث إلى الرؤية الاستراتيجية لتنزيل منتجعات فندقية تستوعب الأعداد الوفيرة من السياح الذين يتم الرهان عليهم، لاسيما مع تحويل كل من العاصمة الرباط ومدينة سلا كقطب سياحي بامتياز.
كما لفت إلى هذا التوجه الاستراتيجي يحظى بفرصة نجاح قوية بالنظر إلى العديد من المآثر التاريخية والثقافية والأثرية التي توجد على مشارف هذا النهر مثل مدينة شالة الأثرية وجامع حسان وقصبة الاوداية والآثار الأخرى التي تتميز بها مدينة سلا على ضفة أبي رقراق
اترك تعليقاً