تعقيبا على الجامعي.. الزميل بوبكر “إن اليد واهبة القمح، تعرف كيف تسن سكين الذبح”

تتبعت مثل غيري (وإن متأخرا على عادة عيوبي الكثيرة في فصل الصيف الذي أفضل فيه ممارسة بلادة مريحة)، الحوار الصحفي الأخير للزميل بوبكر الجامعي (إن سمح لي بهذا التوصيف المقامي)، ضمن بودكاست “بصيغة أخرى” الذي يعده ويقدمه الزميل المشاغب حمزة الفضيل.
لست من هواة مجادلة الزملاء في خرجاتهم الإعلامية مهما كان الموقف منها ومنهم. بل هناك أسماء بعينها لا “يجوز” مناقشتها لأن في ذلك مضيعة للجهد والوقت مثل بوبكر الجامعي. ليس تنقيصا منه حاشا لله، بل بسبب كونهم من “الكبار” (ولاد الدار) الذين لا نرقى نحن البسطاء من قبيلة الصحفيين إلى مستوى أثرهم ضمن “صراع الكبار”. إذ من المروءة أن يعرف المرء حدوده.
أفترض أن الزميل بوبكر الجامعي لا يعرفني، علما أن آخر لقاء جمعني به كان منذ أكثر من خمس وعشرين سنة في فطورين متباعدين بمنزل السفير الأمريكي بالرباط (اللبناني الأصل) إدوارد غابرييل. من حينها وطنت نفسي أنني وإياه ننتمي الى جغرافيتين مختلفتين في “المكانة الإعلامية”. فهو “في الداخل” وأنا “في الخارج”، ولو شئت التدقيق أكثر لقلت بصيغتنا التوصيفية القديمة هو من “بلاد المخزن” وأنا بحكم الأمور من “بلاد السيبة” (إعلاميا أقصد). فوطنت نفسي على أن أعرف قدري وأكتفي به، بالتالي فإن كل مجادلة معه عبثية من جهتي على الأقل، ف “الناس مقامات” ورحم الله من عرف قدر نفسه.
المشكل أن شيطاني وسوس لي هذه المرة بالمغامرة بمناقشته في باب واحدة من المواضيع الكثيرة التي أفتى فيها في لقائه ببودكاست “بصيغة أخرى” (بعضها فيه زعامة كثيرة تفوق قدراتي الصغيرة والبسيطة)، هي باب “المجتمع المدني”.
لقد التبس علي الأمر حقيقة حين قال بالحرف “بغيتو لفلوس ها هوما، لكن بشروطنا”، حين تأويله كقراءة لتجربة “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” من حيث اعتباره إياها أداة لتحكم وزارة الداخلية في نسيج المجتمع المدني بالمغرب (خاصة بالمناطق القروية). ففي هذا القول ضمنيا اتهام لفعاليات المجتمع المدني المغربية أن “رهانها” المركزي هو على “الفلوس” (خارجية أو داخلية)، وهذه “زلة لسان” لها معانيها في مجال “دراسة الخطاب”، ليس هنا مجال تفصيل القول فيها. مدللا بالإستتباع على تقارير مؤسسات دولية من حجم صندوق النقد الدولي وباحثين أجانب (أشار لباحثة إنجليزية) توجه نقدا كبيرا للخيارات المغربية في هذا الباب.
الواقع إن تجربة المجتمع المدني المغربية تحتاج قراءة منصفة من حيث تجاوز الرؤية الضيقة التي تصنعها حولها وجهات نظر مؤطرة بمرجعية ما يمكن وصفه تحليليا وإجرائيا ب “المجتمع المدني للصالونات المخملية” أو “المجتمع المدني لاقتناص الفرص” (منهجية النواعر).
لنوضح الأمر..
هناك معطيان اثنان مهم تفصيل القول فيهما هنا:
– أولا،
هناك نوعان من المجتمع المدني بالمغرب يجب التفريق بينهما.. هناك المجتمع المدني الساكن في وسائط التواصل الإعلامي والإجتماعي الذي له غايات متراكبة ومختلفة (غالبيته مديني، تحركه خلفيات وحسابات متعددة من أول “البوز” إلى “طموح التأطير السياسي”، مرورا بالحساب “المخابراتي والأمني” ثم التوجه “الفهلوي الباحث عن فرص أكل الكتف”).
ثم هناك ما يمكن وصفه ب “المجتمع المدني البَلْدِي/ الشعبي” الذي له شجرة أنساب عريقة وقديمة ضمن النسيج المجتمعي للمغاربة، صادر عن ثقافة أصيلة ل “التضامن” و “التكافل” (قيم “جْمَاعَة”). هذا المجتمع المدني ميزته الكبرى كامنة ليس فقط في أنه “تطوعي” بل في كونه “مقاوما”، لأنه يستند على منظومة قيم تعاونية عريقة تشكل واحدة من العناوين الكبرى للإنسية المغربية. بل أبعد من ذلك فهي تشكل السماد ل “الهوية المغربية” بمعنى “الدولة”، منذ شكل التدبير المبتكر على عهد الدولة الموحدية القائم على “جْمَاعَة” وعلى “مجالس الأربعين والسبعين” وعلى تنظيم تقسيم الماء للسقي قبليا وبين “الفخدات” و “العظم” (الذي معناه أمازيغي “إخص” المترجم لقرابة الدم).
تربى ذلك النسيج المميز ل “المجتمع المدني البلدي/ الشعبي” على التطوع للقيام بمبادرات تضامنية عملت على تيسير أسباب السبل لاقتناص ضرورات التنمية المحلية بالقليل المتوفر في اليد. هنا مهم العودة للتجربة الغنية جدا لهذا النسيج الجمعوي المدني في شساعات المناطق الأمازيغية (المناطق الناطقة بتاشلحيت أساسا)، ثم بكامل المناطق الحدودية الشرقية للمغرب من طاطا حتى فكيك، ثم بعض من التجارب التنظيمية التعاونية في مجالات بعينها بمنطقة الريف بشمال المغرب (ميزتها الفارقة الدور الكبير للتنظيم التعاوني النسائي).
كانت نتيجة عمل هذا “المجتمع المدني البلدي/ الشعبي” بتراكم السنوات وصبر أبطاله جيلا وراء جيل منذ السبعينات من القرن 20، تحقيق أسباب تنمية محلية متعددة الأذرع على مستوى الخدمات (طرق، تعليم، ماء شروب، كهربة، ري وفلاحة، تعاونيات للزرابي والمنتجات الفلاحية.. إلخ). سجل بخصوصه بشكل مثير أن مصالح الدولة المركزية والمحلية سواء سلطات الداخلية أو الأمن، لم تقم أبدا بعرقلة عمله أو التشويش عليه أو السعي للتحكم فيه، كما لو أنه يكفيها مؤونة واجب التنمية تلك. بل ظل تدخلها محصورا في آليات التنظيم الجمعوي المؤثر في العمليات الانتخابية. مثلما سجل دوما بإيجابية أن آلية “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” كانت سندا داعما لجزء من مشاريعه بفضل يقينها أن عمل ذلك “المجتمع المدني البلدي/ الشعبي” جدي وذي مصداقية وفعال.
سيكون مفيدا جدا أن تعمل جامعاتنا المغربية في مستويات تخصصاتها المختلفة (علم اجتماع، أنثربولوجيا، قانون، علوم سياسية)، بدراسة هذه التجارب المحلية المغربية وتقييمها بإزميل العلم لاستخلاص الدروس منها كنموذج تأطيري مغربي له شجرة أنسابه القديمة في التاريخ. مؤكد أننا سنكتشف من خلالها عناصر “مدرسة مغربية تنظيمية سلوكية” قائمة الذات ستشكل مرجعا لباقي تجارب المجتمع المدني عاليما.
– ثانيا،
ضمن منطوق فتوى الزميل بوبكر الجامعي الخاصة بتجربة المجتمع المدني وتحكم وزارة الداخلية فيه مغربيا عبر ما ذهب إليه تأويليا من توظيف آلية “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” واستعمال “إغراء المال” للإستمالة والتوجيه. الأمر الذي اعتبره فتح الباب لمواقف نقدية ضد المغرب من قبل مؤسسات دولية كبرى ذكر من بينها صندوق النقد الدولي (ممكن أن نضيف إليه من عندنا حتى المؤسسة الأروبية OCDE)، في العديد من تقاريرها السنوية.
المثير هنا، هو أن ما يعتبره الزميل بوبكر الجامعي نقطة سلبية ضد المغرب نراه على العكس تماما نقطة إيجابية.
كيف ذلك؟
مؤكد أن الزميل بوبكر الجامعي يدرك جيدا أن “اليد واهبة القمح، تعرف أيضا كيف تشحذ سكين الذبح” (تيمنا بقصيدة الشاعر المصري الكبير أمل دنقل). ذلك أن من التحديات الكبرى التي تواجهها دول “الجنوب المعولم”، الفقيرة إلى ربها، القليلة الإمكانيات مثل حال بلدنا الجنوبي الفقير، كامن في أنها تواجه موجا عاليا من الإختراقات على مستوى سلامة أمنها الوطني، عبر مسارب متعددة ومعقدة جدا، من بينها باب “العمل الجمعوي المدني” بكل الترسانة المتحققة دوليا على مستوى “الدعم” (لفلوس). الغاية الثاوية فيه هي النجاح في بناء منظومة كاملة للمعلومة المحلية للبلدان وتوظيفها في التأسيس لتوجهات دون أخرى تخدم سياسات مندرجة ضمن منظومة العولمة لهذه السوق أو تلك، لهذه القوة العالمية أو تلك، بخلفية التحكم والوصاية.
نعم هذه ضريبة ضرورية في العلاقات الدولية منذ أقله أربعة عقود، لكن هذا لا يعني ألا تقوم الدول المؤتمنة على حقوق شعوبها وأمنها القومي العام بواجب حماية بلدانها ومصالح أهلها العليا ضمن مهرجان “العولمة” المصطخب. هنا تكتسب عبارة الزميل بوبكر الجامعي “النقدية” من وجهة نظره “إيلا بغيتو لفلوس ها هوما” كامل حقيقتها.
في ملفات مماثلة مهم قراءة تجارب مجتمعية أخرى قريبة وبعيدة منا. في مقدمتها التجربة التونسية والتجربة المصرية والتجربة الجزائرية، ثم التجارب الأروبية (الألمانية، الفرنسية، الإسبانية، الإنجليزية).
في التجارب العربية نجد أن مستوى الإختراق الخارجي للنسيج القومي التونسي عال عبر بوابة “شبكة المجتمع المدني” بكل أطيافه (يساري، إسلامي، فهلوي)، لدرجة أن المتتبع يتساءل أحيانا هل هناك “دولة حامية في تونس” على هذا المستوى. في مقابل ذلك نجد أن الخيار المصري والخيار الجزائري (المتأسسان أصلا على نظم عسكرية شمولية) ذهبا في اتجاه الخيار التحكمي القمعي الرقابي بكل فاتورته على مستوى دفتر تحملات منظومة حقوق الإنسان بمرجعيتها العالمية، مما كانت ضحيته بنية المجتمع المدني ذي المصداقية والفعال مجتمعيا بداخلها، في مقابل تفريخ نسيج مائع من العمل الجمعوي الفاقد للتأثير مجتمعيا وللثقة داخليا وللمصداقية خارجيا.
في التجارب الأروبية تم (بذكاء) إسناد عمل المجتمع المدني كرافعة مركزية ضمن المنظومة الديمقراطية مؤسساتيا، باعتباره شريكا في التنمية السياسية والحقوقية والإجتماعية والإقتصادية والبيئية والثقافية. مما حرر ذلك المجتمع المدني الأروبي من أية حاجة إلى مساعدة خارجية (محتمل عبرها الإختراق)، حيث أشكال الدعم مؤطرة ضمن الميزانيات العامة لتلك الدول. هنا أفضال الخيار الديمقراطي المؤسساتي هائلة. حتى وإن كانت بعض الإختراقات تتحقق هنا وهنا بالشساعات الأروبية بعضها روسي وبعضها أمريكي وبعضها صيني.
إن قراءة الخيار المغربي (وهذا أمر يحتاج جديا بحثا مؤسساتيا أكاديميا) يجعلنا نتلمس ما يمكن وصفه باختيار “طريق ثالث” في شكل تعامل الدولة مع بنية “المجتمع المدني” بخصوصيتها المغربية.
إذ هناك من جهة صرامة في الرقابة على كل أشكال التعاون الدولية مهما كان مستوى تلك المؤسسات حتى لو كان صندوق النقد الدولي أو اليونيسكو أو “OCDE”، لأن الدولة مؤتمنة على مصالح البلد القومية العليا، مثلما تفعل كل الدول التي تحترم مسؤولياتها الواجبة (حتى لا يتكرر عندنا النموذج التونسي). مثلما أنها لا تذهب في اتجاه الخيار التحكمي المصري أو الجزائري لفاتورته على مستوى دفتر تحملات منظومة حقوق الإنسان دوليا. ولأننا بلد لم يحقق بعد “تحوله الديمقراطي” ليس فقط مؤسساتيا بل كبنية سلوكية (النصوص قائمة والمشكل في التطبيق)، توجهت الدولة نحو خيار حمائي يحقق التأطير والمساعدة في الآن نفسه، نموذجه الأوضح تجربة “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”.
هل في هذا “الخيار الثالث” اجتهاد وذكاء؟
نعم، بمنطق الأمور المتعالقة مع ملف حيوي مماثل، وبمنطق واقع لحظة التحول التاريخي للمغرب والمغاربة أقله منذ 150 سنة، الذي فيه صعود وهبوط ضمن الخيار المركزي للإصلاح كمشروع للدولة والمجتمع. مهم على مستوى “عقل الدولة” اعتباره مرحلة انتقالية، لأن الإكتفاء بها سيجعلها تتحول لما يشبه “عجلة احتياط” تدور في الفراغ. لهذا السبب إن التراكم المتحقق مغربيا على مستوى تدبير ملف “المجتمع المدني” عبر آلية “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية” يفرض تقييما واجبا لتحقيق الإنتقال الثاني مؤسساتيا بخطو الدولة المتحكمة في مصيرها وفي مسارها ضمن مهرجان الأمم والدول.
أرجو أن يتقبل مني الزميل بوبكر الجامعي هذه الملاحظات الآتية من جغرافية الهامش، التي منطلقها الأول والأخير أن تصفية الحساب مع “أصحاب القرار” في بلدك (وأنت من أنت صحفيا ومهنيا، وأيضا سليل عائلة الصدر الأعظم المختار الجامعي) لا يجب أن يكون على حساب السقف الأعلى لمصلحتنا القومية كأمة وبلد.
اترك تعليقاً