أحمد بوز يكتب: الخروج السياسي المقبل

مع كل بداية سنة جديدة اعتدنا في المغرب أن نسمع عن الدخول السياسي، وكأن الأمر يتعلق بموسم ثابت لا يتغير سوى في تفاصيله الشكلية. يبدأ النقاش بين الفاعلين الحزبيين والبرلمانيين والحكومة ووسائل الإعلام المختلفة حول القضايا التي ستتصدر جدول الأعمال السياسي والتشريعي، وتكثر الوعود والبرامج والخرائط الجديدة، ويعاد إنتاج نفس الخطاب عن الإصلاح وعن الاستحقاقات المقبلة وعن رهانات المستقبل. وتفتتح السنة التشريعية للبرلمان بخطاب ملكي، وفقا لما تقتضيه أحكام الدستور، يتضمن في الغالب توجيهات تشريعية أو يتناول قضايا مرتبطة بالسياسات العمومية.
غير أن تكرار هذا الطقس السنوي جعله يفقد الكثير من معناه، حتى صار الدخول السياسي أقرب إلى واجب بروتوكولي يؤديه الفاعلون أكثر مما هو محطة لمراجعة المسار السياسي وتقييمه. ولهذا تبدو الحاجة ماسة اليوم إلى قلب المعادلة والحديث عن الخروج السياسي بدل الدخول السياسي، أي التفكير في الكيفية التي يمكن بها للمجتمع أن يخرج من رتابة السياسة السائدة ومن أفقها المسدود.
لا ينبغي أن يفهم الخروج السياسي كدعوة إلى الانسحاب من الشأن العام أو مقاطعته نهائيا، بل بالعكس هو شكل من أشكال النقد الفعلي للمنظومة القائمة وطريقة لإعادة مساءلة معنى السياسة وجدواها. فإذا كان الدخول السياسي يعيد إنتاج نفس الملفات التي تحددها الحكومة والبرلمان، فإن الخروج السياسي يسعى إلى تجاوز هذه “الأجندة المعلبة” وطرح قضايا أخرى مسكوت عنها تماما أو لا تحظى بالانشغال اللازم، قضايا تمس يوميات المواطنين ومشاغلهم العميقة لكنها لا تجد لها مكانا في النقاش الرسمي. بهذا المعنى يصبح الخروج السياسي نوعا من استعادة المبادرة ومحاولة لإعادة تعريف أولويات المجتمع خارج منطق الدولة والأحزاب والمؤسسات.
لقد أصبح واضحا أن السياسة في المغرب تعاني من أزمة رتابة، حيث تتكرر نفس الشعارات دون أثر ملموس في الحياة اليومية لأغلبية الناس. الأحزاب السياسية فقدت الكثير من قدرتها على التعبئة، والبرلمان لا يثير اهتماما كبيرا لدى الرأي العام، والحكومة في الغالب تحكمها إكراهات تقنية واقتصادية داخلية وخارجية أكثر مما تحكمها رهانات سياسية كبرى. ومع مرور الوقت تزايدت الهوة بين المجتمع وهذه المؤسسات، وصار المواطن ينظر إليها بريبة أو بلامبالاة. أمام هذا الوضع لا يمكن الاستمرار في الترويج لطقس الدخول السياسي كما لو كان احتفالا ديمقراطيا، بل الأجدر هو التفكير في الخروج السياسي كإشارة إنذار وكأداة ضغط على النظام المؤسساتي والحزبي لكي يستعيد المصداقية.
الخروج السياسي له وجوه وصور متعددة. فقد يظهر أحيانا في ضعف الإقبال على المشاركة الانتخابية، الذي يعكس احتجاجا على ضعف البدائل المعروضة وعلى غياب الثقة في المؤسسات. وقد يتجسد في مبادرات سلمية أو مدنية تسعى إلى التعبير عن قضايا اجتماعية أو محلية معينة وإبرازها في النقاش العمومي. وقد يتخذ أشكالا أخرى أكثر هدوءا عبر شبكات التواصل أو الفضاء المدني، حيث تفرض مبادرات مختلفة أجندتها على الرأي العام وتدفع الفاعلين السياسيين إلى التفاعل معها. وفي جميع الأحوال، لا يتعلق الأمر بخيار سلبي أو استسلامي، بل هو فعل واع يترجم الرغبة في التحرر من قوالب السياسة التقليدية التي أثبتت محدوديتها.
سنة انتخابية كالتي نعيشها اليوم تجعل معنى الخروج السياسي أكثر راهنية. ففي مثل هذه السنوات، تزداد وتيرة الخطاب الحزبي، وتكثر الوعود التي غالبا ما تتبخر بعد الاقتراع. وإذا كان الدخول السياسي في سنوات الانتخابات لا يعدو أن يكون سباقا محموما نحو استقطاب الأصوات وتوزيع الشعارات، فإن الخروج السياسي يصبح ضرورة للتذكير بأن الديمقراطية لا تختزل في صناديق الاقتراع وحدها، وأن المشاركة لا يمكن أن تتحقق بمجرد تعبئة المواطنين ليوم التصويت ثم تركهم لمصيرهم باقي السنوات. إن الخروج السياسي هنا يعبر عن رفض هذا الاختزال وعن إصرار على جعل السياسة فعلا يوميا مستمرا لا حدثا موسميا.
يستمد الخروج السياسي قوته من أنه يعكس تحولا في وعي المواطن. فحين يقرر الفرد أن يخرج من اللعبة التقليدية، فهو لا يفعل ذلك بدافع الكسل أو اللامبالاة، بل لأنه يرى أن اللعبة فقدت معناها وأن شروطها لم تعد عادلة. ومن ثمة فإن هذا الخروج يصبح رسالة سياسية في حد ذاته، رسالة موجهة إلى الدولة والأحزاب السياسية بأن إعادة الثقة تقتضي إصلاحات أعمق بكثير من مجرد تغيير الوجوه أو تعديل القوانين التقنية. هو رسالة تقول إن الشرعية لا يمكن أن تبقى قائمة على الطقوس الشكلية وحدها، بل يجب أن تستند إلى مضمون ديمقراطي فعلي يترجم في السياسات العمومية والخيارات الكبرى.
لكن الخروج السياسي ليس بلا مخاطر. إذ يمكن أن يتحول إلى عزوف دائم يقود إلى فراغ سياسي تستفيد منه النخب القائمة لإعادة إنتاج نفسها بلا مقاومة. كما قد يتحول إلى لامبالاة عامة تفقد المجتمع القدرة على الضغط والتأثير. لذلك فإن فعاليته مشروطة بمدى قدرته على أن يكون خروجا واعيا منظما لا مجرد انسحاب فردي صامت. فحين يتحول الخروج إلى حركة مجتمعية ذات أهداف واضحة، فإنه يفتح الباب أمام تجديد الحياة السياسية وإعادة بنائها على أسس أكثر مصداقية. أما إذا بقي مشتتا وعشوائيا، فقد ينقلب إلى عامل ضعف إضافي يكرس الأزمة بدل أن يحلها.
إن التفكير في الخروج السياسي ليس ترفا فكريا، بل هو ضرورة لقياس حدود السياسة الرسمية القائمة. فمن دون هذا التفكير سنظل ندور في الحلقة نفسها: وعود انتخابية متكررة، دخول سياسي بروتوكولي، أزمات بنيوية لا تجد حلا، ثم إعادة إنتاج الوضع نفسه. في المقابل، الخروج السياسي يدعونا إلى طرح أسئلة أكثر جذرية: ما معنى التمثيل؟ ما جدوى البرلمان؟ كيف يمكن للمواطن أن يمارس مواطنته خارج التصويت؟ وأي أفق ديمقراطي نريده لمستقبل البلاد؟ هذه الأسئلة هي التي تعطي للسياسة معناها وتمنح المجتمع القدرة على أن يكون فاعلا لا مجرد متلق سلبي.
إن أبرز ما يكشفه الخروج السياسي هو أن السياسة لا تختزل في المؤسسات الرسمية وحدها، وأن المجتمع يملك دائما طرقا أخرى لإسماع صوته وإيصال رسائله. فالقوة الحقيقية لأي نظام سياسي لا تقاس بعدد القوانين التي يتم إصدارها أو بعدد الجلسات البرلمانية التي يعقدها، بل بمدى الثقة التي يمنحها له المواطنون وبمدى قدرتهم على الشعور بأنهم جزء من اتخاذ القرار. وإذا كانت هذه الثقة غائبة أو ضعيفة، فإن الخروج السياسي يصبح دليلا على أن هناك خللا في العلاقة يجب معالجته بجرأة وإصلاحات عميقة.
إن سنة انتخابية لا ينبغي أن تقرأ فقط في ضوء النتائج التي ستفرزها صناديق الاقتراع، بل أيضا من خلال مستوى الثقة الذي سيعبر عنه الناس بالمشاركة أو بالمقاطعة، بالانخراط أو بالخروج. ففي النهاية، السياسة ليست فقط ما يحدث تحت قبة البرلمان، أو ما يجري تداوله في مجالس الحكومة أو في مقرات الأحزاب، بل أيضا ما يحدث في الشارع، في الجمعيات، في الفضاء الرقمي، وفي كل المبادرات التي يصوغها المواطنون بأنفسهم. الخروج السياسي إذن هو الوجه الآخر للمشاركة، وجه قد يبدو احتجاجيا أو رافضا، لكنه في العمق يفتح الباب أمام إعادة بناء السياسة على أسس أكثر صدقا وتمثيلية.
وعندما يتم الحديث عن الخروج السياسي فإن ذلك ليس دعوة إلى هدم المؤسسات ولا إلى القطيعة مع الدولة، بل إلى إعادة صياغة علاقة المجتمع بهما. إنها دعوة إلى كسر الرتابة التي جعلت الدخول السياسي موسما بلا معنى، وإلى استعادة المبادرة من القاعدة نحو القمة. فالمجتمع الذي يعرف كيف يخرج من السياسة الشكلية، هو نفسه الذي يعرف كيف يعيد إنتاج سياسة حقيقية تعكس حاجاته وتطلعاته بدل أن تفرض عليه من فوق. وهذا في النهاية هو جوهر الديمقراطية: أن تكون السياسة ملكا للجميع لا طقسا موسميا يحتكره بعض الفاعلين.
بهذا المعنى، فإن الخروج السياسي ليس انسحابا بل تحررا، ليس فعلا سلبيا بل عملا إيجابيا. إنه محاولة لفتح أفق جديد في زمن انتخابي قد يغري بالعودة إلى نفس الطقوس القديمة. وإذا كان الدخول السياسي هذه السنة سيعيد إنتاج نفس الخطاب المألوف، فإن الخروج السياسي يطرح بديلا للتفكير وللمساءلة، ولإعادة تخيل السياسة بما هي أداة للتغيير، لا مجرد مسرح للوجوه المألوفة والشعارات المكرورة. وهنا بالضبط يكمن رهانه الكبير: أن يحول لحظة الانتخابات من موسم عابر إلى فرصة لإعادة تعريف معنى أن نكون مواطنين فاعلين قادرين على صنع السياسة لا مجرد مستهلكين لها.
أحمد بوز أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بكلية الحقوق السويسي
اترك تعليقاً