حين يضحك الديك على أطلال المدينة

في هذه المدينة، التنقيب عن فرصة عمل يشبه التنقيب عن الذهب في أرض قاحلة، أو كمن يبحث عن سيارة فارهة بثمن رخيص، أو زوجة غنية وجميلة في إعلان مجاني. مواصفات لا توفرها حتى مكاتب الصرف، ولا يحلم بها سوى عاطل تعلّم كيف يذبح الأمل كما يُذبح البيض قبل أن يفقس.
أبو سالم، بطلنا البائس، يقضي نهاره متنقلًا بين الإدارات كأنها أسواق نخاسة، يحمل ملفه الأزلي ويبحث عن توقيع يفتح له بابًا، لكن الأبواب مغلقة، وكلما دقّ واحدة، يسمع الصدى يردّد:
دقة تابعة دقة… شكون إحل الباب؟ يتساءل!
فيعود بخطواته المتعثرة، كأنه نملة تبحث عن مكان لتبول في صحراء شاسعة.
المدينة نفسها تُمارس عليه سخرية مُبطّنة: هنا لا حبّ سوى إشارات عابرة، نصف ابتسامة، أو نظرة مسروقة خلف حجاب الغبار. الحب في هذه الصحراء يشبه واحة من سراب، كلما اقتربت منها تبخرت.
الشيخ ذو الأذنين الطويلتين يراقب المشهد من برجه العالي. يخبّئ في أذنيه أسرار الناس وأوجاعهم، لكنه لا يسمع إلا صدى ضحكاته هو. يُشاع أن في أذنيه مساحة تكفي لتخزين كل أخبار الوشاة وقصص العاشقين الهاربين.
أما البورجوازية المتعفنة، فتتمدد في مقاهيها المكيّفة. هناك يجلسون، ينظرون إلى العاطلين من بعيد كما لو كانوا أشباحًا. يشعروك بالهزيمة حتى ولو كنت منتصرًا، لأنهم يملكون فنون التبخيس، ولأنهم يوزعون شهادات الفشل قبل أن تبدأ السباق.
وأبو سالم، المسكين، يجد عزاءه في براده العتيق. لازمه كثيرًا حتى صار أكثر من صديق: كل جلسة تحتاج درهمًا من السكر الأبيض، ومثله من الشاي الأخضر، ونصفه من أوراق نعناع أخضر ملقّم بعرق الفلاحين. براد أثقل جيبه كما أثقلت الحياة قلبه، لكنه ظل وفيًا له، مثل قفل صدئ يرفض الانفتاح.
كل صباح، يستيقظ أبو سالم على صياح ديكه الهجين. ديك نصفه ديك ونصفه مهرّج. صياحه ليس إعلانًا عن شروق الشمس، بل ضحكة ساخرة مسجّلة باسم المدينة. يضحك الديك وكأنّه يسخر من صاحبه: “نهارك مثل أمسك، ما الذي تنتظره؟”
في المساء، حين يجلس أبو سالم في مجلسه، يضع براده فوق الطاولة مثل تمثال صغير للخيبات. يراقب دخان الشاي الأبيض وهو يصعد ببطء، يذكره بدخان أحلامه التي تبخرت مع سواد الحياة. حوله ضحكات متقطعة، أحاديث عن مباريات الكرة، عن أسعار الطماطم، عن العرس الفلاني. لكنه يعرف أن صوته لا يسمعه أحد، مثل حب في صحراء، مجرد إيماءة لا أكثر.
وهكذا، بين ديك هجين يضحك على بؤسه، وشيخ ذو أذنين طويلتين يسمع ولا يُنصت، وبورجوازية متعفنة تُصدّر الهزيمة، يواصل أبو سالم حياته. حياته التي لا تختلف كثيرًا عن ذبح البيض قبل أن يفقس: عبثٌ ملوّن بسواد…..، يليق فقط بهذه المدينة التي لا تمنحك شيئًا سوى فرصة للضحك من مرارتك.
اترك تعليقاً