علاقة المسلمين بالدعاء بين التوحيد والانزياح الشعائري: مقاربة فلسفية، أنثروبولوجية-سوسيولوجية

مقدمة
يشكّل الدعاء إحدى الممارسات المحورية في التجربة الإسلامية، بوصفه فعل اعتراف بالمطلق ولحظة مواجهة لضعف الإنسان. ومع ذلك، فإن التحولات الاجتماعية الحديثة أنتجت مقاربة شعائرية-نفعية للدعاء، فرّغته في كثير من البيئات من وظيفته التوحيدية وحوّلته إلى بديل عن الفعل الاجتماعي، ما يمكن تسميته بـ “التواكل الشعائري”.
يتكامل هذا التحليل مع رؤية د. جواد الشقوري (2022)، الذي يقدّم بعدًا تربويًا وروحيًا، مع توجيه انعكاسات فلسفية على معنى الدعاء والوجود الإنساني:
“ليست الاستجابة للدعاء من المقاصد الوحيدة للدعاء؛ فتحقيق التذلل والعبودية والتقرب إلى الله تعالى من أهم هذه المقاصد” (د. جواد الشقوري، 2022).
الشقوري يشير إلى أن الدعاء يكشف العلاقة بين الإنسان والمطلق، ويجعل المسلم واعيًا بضعفه وحدود معرفته، وهو تأمل فلسفي في طبيعة الإنسان وعلاقته بالخالق:
“ما يراه الإنسان خيرًا قد يكون شرا، والعكس صحيح” (د. جواد الشقوري، 2022).
1. الدعاء في بنيته العقدية: فعل توحيد وفلسفة العبادة
تجمع المصادر الإسلامية الكلاسيكية على أن الدعاء هو لبّ العبادة وجوهرها. يرى د. الشقوري أن الدعاء يربط القلب بالمطلق ويعمّق معنى الافتقار لله، وليس مجرد طلب منفعة دنيوية، وهو ما ينسجم مع ما أكده أبو حامد الغزالي:
“الدعاء تجسيد لغاية العبودية، لأنه يربط القلب بالمطلق ويعمق معنى الافتقار إلى الله” (الغزالي، إحياء علوم الدين).
هنا يظهر البعد الفلسفي للعبادة، إذ يصبح الدعاء فعل وعي يربط الإنسان بالمطلق، وليس مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب دنيوية.
2. الانزياح الشعائري: من الطقس إلى التقنية الرمزية
التحليل الأنثروبولوجي يوضح أن الدعاء أحيانًا يتحول إلى طقوس فارغة، تفتقر للمعنى العميق، كما وصف دوركهايم:
“حين يستمر الفعل الشعائري كعادة جماعية دون أن يحتفظ بوظيفته الروحية الأصلية” (Durkheim, 1912).
هنا يظهر الانزياح الشعائري، حيث يغلب الشكل على المضمون، والطقس على المعنى، ويصبح الدعاء أداة رمزية للاستقرار الاجتماعي أكثر من كونه فعل توحيدي حي.
3. التواكل الشعائري: الدعاء كبديل عن الفعل
التواكل الشعائري هو تحول الدعاء من وسيلة لتحفيز الفعل إلى بديل عن العمل والاجتهاد، ويختلف عن التوكل الشرعي الذي يجمع بين الأخذ بالأسباب والتعلق بالله.
أمثلة تطبيقية:
الاكتفاء بالدعاء للشفاء مع إهمال وسائل العلاج المتاحة.
الدعاء لتغيير الأوضاع الاجتماعية دون المشاركة في مبادرات التغيير.
يشير د. الشقوري إلى أن بعض الأشخاص يسألون الله فلا يُستجاب دعاؤهم، ويجب أن يُنظر إلى ذلك كجزء من تقدير الله وحكمته، وليس كقصور في العبادة:
“الأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب، فإن لم يجب تذمر في باطنه كأنه يطلب أجرة عمله” (د. جواد الشقوري، 2022).
4. دمج البعد الروحي والفلسفي والاجتماعي
استعادة الدعاء لوظيفته التوحيدية تتطلب إعادة بناء الوعي الديني بحيث يصبح الدعاء دافعًا للفعل لا بديلاً عنه، مع إدراك البعد الفلسفي للتسليم والوعي بالضعف الإنساني.
تفكيك الخطاب الديني الشعبي الذي يكرّس الطقس على حساب المعنى.
دمج البعد الأخلاقي والروحي (التذلل لله، العبادة، الرضا بالقضاء والقدر) في التحليل الاجتماعي.
إدماج التربية العقدية بالنقد الاجتماعي، بحيث يصبح الدعاء قوة دافعة للفعل الفردي والاجتماعي:
“الإيمان في جوهره ليس انسحابًا من الواقع، بل شجاعة وجودية لمواجهته” (Tillich, 1952).
5. أمثلة ميدانية
الدعاء في المجال الصحي والاجتماعي كمحفز للفعل: يشجع على المشاركة في العلاج أو المبادرات الاجتماعية.
الدعاء كبديل عن الفعل: يظهر في سياقات الإحباط السياسي أو العجز البنيوي، حيث يتحول إلى متنفس جماعي دون تغيير الواقع.
6. توضيح ختامي: المقال كمكمل لمقال د. جواد الشقوري
هذا المقال يُكمل مقال د. جواد الشقوري، الذي تناول الدعاء من جانب تربوي وروحي، مركزًا على الأخلاق، العبادة، والتذلل لله. بينما يقدّم مقالنا تحليلًا أنثروبولوجيًا-سوسيولوجيًا وفلسفيًا، موضحًا التحولات الاجتماعية والثقافية والدلالات الفلسفية للدعاء، وتحوله أحيانًا إلى طقس شعائري أو بديل عن الفعل الاجتماعي، مع إبراز البعد الفلسفي للوعي بالضعف البشري والتسليم للمطلق.
الدمج بين المقالين يوفر صورة شاملة: مقال د. الشقوري يسلط الضوء على البعد الفردي والروحي، بينما هذا المقال يكشف السياق الاجتماعي والثقافي والفلسفي للدعاء، مما يعزز فهمه كفعل توحيدي محفّز للفعل والوعي الفردي والاجتماعي.
المراجع
السملالي، عبد الحي. علاقة المسلمين بالدعاء بين التوحيد والانزياح الشعائري: مقاربة أنثروبولوجية-سوسيولوجية.
الشقوري، د. جواد. “كيف نفهمُ الدعاءَ في الإسلام وكيف نُمارسه؟”. موقع اليوم 24، 22 أبريل 2022.
الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. القاهرة: دار المعرفة.
Durkheim, Émile. The Elementary Forms of Religious Life, 1912.
Turner, Victor. The Ritual Process: Structure and Anti-Structure, 1969.
Tillich, Paul. The Courage to Be, 1952
اترك تعليقاً