منتدى العمق

جيل Z يرفض مغربا بسرعتين

في بلد أصبح يسِير بسرعتين بينهما بعد المشرقين، خرج «جِيل الأنترنيت» ليدق  ناقوس الخطر والاندار قبل فوات الأوان! هذه العبارة ليست مجرد وصف عابر، بل هي تلخيص قاسٍ لحقيقة مجتمعية واقتصادية مؤلمة، فبينما تواصل نخبة محظوظة مسيرتها في مسار النمو السريع المتمثل في الموانئ الكبرى والاستثمارات العملاقة والبنية التحتية المتطورة، يعيش المسار الثاني، الذي يضم أغلبية الشعب، حالة من التباطؤ والتراجع في أركان الحياة الأساسية كالتعليم والصحة والتشغيل.

إن هذا “البُعد بين المشرقين” ليس فجوة في الثروة فحسب، بل هو تنافر في الفرص وفي العدالة، حيث يبدو وكأن التنمية تُصمم لخدمة طرف واحد، بينما يُترك الطرف الآخر يواجه تحديات الهشاشة والفقر المزمن من رحم هذا التباين خرج “جيل السرعة” الجيل Z؛ جيل لم يعد يرى العالم من خلال مرآة الإعلام الرسمي أو الوعود المؤجلة. إنه جيل وُلد من رحم الإنترنت وفتحت له شاشات الهواتف نافذة غير خاضعة للرقابة على حقائق وأرقام تُقارن واقعه بوقائع العالم. هذا الجيل لا تبهره مشاريع الإلهاء الكبرى بقدر ما يُغيظه التدهور اليومي لمنظومة التعليم والصحة، ويرفض أن يكون صف انتظار بلا رقم في سوق عمل يضيق يومًا بعد يوم.

جيل Z، وُلد من رحم الإنترنت، وهو جيل لا تسكته عصا القمع ولا تُبهره أضواء مهرجانات الإلهاء التي تنبعث منها رائحة التضليل. يفتح عينيه كل صباح على مقارنات لا ترحم في عالمٍ معولم: تعليمٌ يتعثّر في ظل إضرابات طويلة عولجت باستهتار، ومنظومة صحية تُنهك المريض قبل المرض، وأفق مهنيٌّ يشبه صفّ انتظار بلا رقم. هذا الجيل لا يشتري “الوعد المؤجل”؛ ذخيرته يومية هي حقائق وأرقام وتجارب العالم بضغطة إصبع. وحين يرفع صوته، يُرد عليه بوصفة قديمة: قمعٌ سريع، وبياناتٌ خشبية، وجرعةٌ زائدة زائفة من التلميع. نفسياً، وفلسفياً، القمع اعترافٌ ضمنيّ بفشل الحُجّة، وتغليب للقوة على العقد الاجتماعي، لأن الظلم المعرفي يولّد غضباً أخلاقياً، والدولة التي تؤجّل الإصلاح تُعجّل بالانفجار، كما لخصها ابن خلدون: “الظلم مؤذِن بخراب العمران”.

إن المشهد العام في البلاد لم يعد يمثل مجرد تحديات عابرة، بل هو نتاج تراكم منهجي أدى إلى تآكل الثقة وتغذية شعور عميق بالغبن، وهو تراكم أصبح مكشوفاً تماماً أمام جيلنا الصاعد. فالشباب الذي يفتح حسابه على الإنترنت يقرأ يومياً ملفاً مفتوحاً من الشكاوى التي تتحدث عن انتخابات مزورة، ونخبة فاسدة تتحكم في البلاد وتبيع الموارد الحيوية، كالمياه المستنزفة عبر صادرات الأفوكا والطماطم والبطيخ …، بينما تُسند حقيبة التعليم لمقاول لأسباب ريعية، وحقيبة الصحة لوزير لا علاقة له بالقطاع إلا بصلات القرب من رئيس الحكومة، الذي بدوره يمد أخطبوط شركاته في الغاز والصحة وتحلية المياه، ويُضاف إلى هذا ملفات كبرى كـفضيحة الـ 17 مليار درهم لشركات المحروقات، واحتكار استيراد الأغنام الذي أثر على شعيرة العيد، وأزمة السكن المفتعلة، وصولاً إلى الاعتقالات بتهم ملفقة لكل من يكتب مقالاً أو يجري استقصاءً.

لذا، فإن التعامل مع الاحتجاجات يجب أن يتوقف عن كونه مادة للشيطنة أو اتهامات العمالة، لأن هذا مجرد هروب من المشكل. الاحتجاج ليس عدواً، بل هو تغذية راجعة (Feedback) إجبارية لتقييم السياسات العمومية. لا يهم إن كانت هذه الاحتجاجات مؤطرة أو عفوية، الأهم هو الرسالة.

الواقع يثبت أننا لا نعيش في مغرب بسرعتين فقط، بل أصبحنا في مغرب بمسارين متنافرين: مسار الشعب الذي يعاني من أزمات التعليم والصحة والسكن والتشغيل والمياه، ومسار نخبة فاسدة تختفي وراء أولويات “كبرى” لتضمن استفادة كبرى لها، أو وراء نجاحات وهمية غرضها الوحيد هو الإلهاء.

هذا التأخر في علاج المشاكل الواضحة والتباطؤ في معاقبة المفسدين لن يسهم إلا في توريث العاهل المقبل تركة ثقيلة يواجه فيها هذا الجيل الساخط. الحلّ ليس معقدا لكنه شاق: محاسبة الفاسدين بلا خطوطٍ حمراء، وإسناد المسؤولية للكفاءات، وشفافية ورقابة مجتمعية. إن المقاربة الأمنية ستزيد الأوضاع اشتعالاً وستعطي للاحتجاجات زخمها البطولي؛ فالطريق الوحيد لتجنّب الكارثة هو عدالة تُرى، ومسؤولون يُحاسَبون، ومؤسسات تُصلَح لا تُزيَّن. غير ذلك فهو مجرد تأجيل للعودة إلى المربع الأول، لكن بأصواتٍ أعلى وقلوبٍ أقل صبرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *