وجهة نظر

بين الخطاب الملكي وسوق التزكيات… مفارقة تفرغ السياسة من معناها

الجلابيب بيضاء… لكن النوايا السياسية رمادية

في كل افتتاح للسنة التشريعية، يوجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده خطبًا سامية تدعو إلى الارتقاء بالعمل الحزبي وتخليق الحياة السياسية. خطابات تحمل في طياتها توجيهات واضحة نحو بناء ممارسة سياسية نزيهة، تجعل من العمل الحزبي رافعة للتنمية، ومن المنتخبين خُدامًا للمصلحة العامة لا أصحاب مصالح ضيقة.

غير أن المشهد الحزبي الوطني لا يزال، للأسف، بعيدا عن هذه الرؤية الملكية المتبصرة. فـسوق التزكيات أضحت ساحة مفتوحة تباع فيها التزكيات وتشترى، وتقاس فيها الكفاءة بحجم المال لا بعمق الفكر أو الإخلاص للوطن. تحول النضال السياسي إلى سلعة انتخابية، والالتزام الحزبي إلى صفقة مشروطة.

لقد فقدت التزكية معناها الديمقراطي الأصيل، بعدما كانت أداة لتمكين الكفاءات الوطنية من تمثيل المواطنين والدفاع عن قضاياهم. اليوم، أصبحت رهينة منطق المال والنفوذ، في وقت يقصى فيه الكثير من الغيورين على الوطن لعدم قدرتهم على مجاراة “أصحاب الشكارة” الذين يهيمنون على “بورصة التزكيات”.

ولعل المشهد أكثر مفارقة حين نرى بعض المنتخبين يلبسون الجلابيب البيضاء في قبة البرلمان، لكن نواياهم السياسية رمادية، بعيدة عن روح المسؤولية والمواطنة الصادقة. فهدف كثير منهم لا يتجاوز استرجاع ما أنفقوه لنيل التزكية، بدل خدمة مصالح المواطن الذي أوصلهم إلى مواقع القرار.

إن هذه الممارسات لا تسيء فقط لصورة الأحزاب، بل تعمق أزمة الثقة بين المواطن والسياسة، وتضعف مؤسسات الوساطة التي تعتبر حجر الزاوية في أي ديمقراطية حقيقية. فحين تقصى الكفاءات النزيهة ويهمش الشباب الطموح، تفرغ السياسة من معناها، ويتحول البرلمان إلى فضاء لتصفية المصالح بدل مناقشة السياسات العمومية.

لقد أكد جلالة الملك في أكثر من مناسبة على ضرورة تجديد النخب وتأهيل الأحزاب وربط المسؤولية بالمحاسبة، غير أن الاستجابة ما تزال محدودة، وكأن الخطاب الملكي لا يجد صداه داخل بعض التنظيمات الحزبية التي تضع المصلحة الانتخابية فوق المصلحة الوطنية.

نحو ميثاق وطني لتخليق التزكيات

إن الوضع الراهن يفرض اليوم إطلاق ميثاق وطني لتخليق التزكيات السياسية، يكون بمثابة تعاقد أخلاقي بين الأحزاب والمجتمع، يقوم على مبادئ الشفافية والكفاءة والمساءلة. ميثاق يعيد الاعتبار لقيمة النضال السياسي، ويقطع مع منطق الزبونية والريع الحزبي الذي شوه صورة الممارسة الديمقراطية.

فالإصلاح الحقيقي لا يأتي بالقوانين وحدها، بل بإرادة جماعية تؤمن بأن السياسة مسؤولية لا تجارة، والتزكية تكليف لا تشريف.

إن الوطن في حاجة إلى نخب جديدة، تؤمن بالوطن أولا، وبأن خدمة المواطن شرف وليست وسيلة للاغتناء أو التموقع. فقط حينها، يمكن أن تصبح خطب جلالة الملك واقعا معاشا، لا مجرد رسائل تتلى على مسامع من لا يريدون أن يسمعوا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *