إذاعة العيون الجهوية: خمسون عاما من الريادة في الإعلام الجهوي وتعزيز الهوية الصحراوية

تظل إذاعة العيون الجهوية واحدة من أبرز العلامات المضيئة في مسار الإعلام المغربي عامة، والإعلام الجهوي على وجه الخصوص. فمنذ تأسيسها في منتصف السبعينيات، كانت الإذاعة الجهوية للعيون شاهدة على مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب الحديث، وفاعلاً أساسياً في مواكبة مسيرة استرجاع الأقاليم الجنوبية، وتثبيت السيادة الوطنية، وصون الهوية الثقافية الصحراوية في بعدها المغربي الأصيل. لقد وُلدت إذاعة العيون في سياق سياسي وتاريخي بالغ الحساسية، فكانت صوت الوطن في الصحراء، ومنبر الوحدة، وجسراً إعلامياً وإنسانياً بين المواطن والدولة، بين الماضي والحاضر، بين الهوية والانفتاح.
يستحضر أبناء الصحراء المغربية، ومعهم كل الإعلاميين المغاربة، تلك اللحظات الأولى التي انطلقت فيها الإذاعة من فندق “برادور” بمدينة العيون، حين كان الفريق الإذاعي المغربي يباشر عمله في ظروف استثنائية قبل أن يتم تسليم الإذاعة رسميًا للمغرب في 28 فبراير 1976، وفق اتفاقية مدريد. كانت تلك البدايات الأولى التي طبعتها روح التضحية والعزيمة والإيمان بالوطن. فقد تشكل الفريق من الرواد الأوائل الذين حملوا على عاتقهم مهمة صعبة في بيئة غير مستقرة، من بينهم محمد جاد، مجد عبد الرحمن، بنعيسى الفاسي، أحمد عكا، ومحمد داكة، وغيرهم من التقنيين الذين صنعوا أولى لبنات الإعلام الإذاعي في الصحراء. وفي تلك اللحظة التاريخية، صدحت عبارة محمد جاد الشهيرة من أثير الصحراء: “هنا العيون، إذاعة المملكة المغربية”، لتُعلن ميلاد محطة سيكون لها شأن كبير في ترسيخ الوعي الوطني وتعزيز ارتباط الصحراويين بوطنهم الأم.
منذ ذلك الحين، أدت إذاعة العيون دورًا محورياً في الدفاع عن القضية الوطنية الأولى، قضية الصحراء المغربية. كانت صوت الوحدة الوطنية في مواجهة الدعاية الانفصالية، وساهمت بجرأة ومسؤولية في كشف حقيقة الوضع في مخيمات تندوف، ونقل معاناة الصحراويين شرق الجدار هناك، وتسليط الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يتعرضون لها من طرف قيادة البوليساريو القبلية الرجعية الدموية الشوفينية، كما واكبت عن قرب مختلف المبادرات والمشاريع التنموية بالأقاليم الجنوبية، في انسجام تام مع الرؤية الملكية السامية الرامية إلى جعل الصحراء المغربية نموذجًا للتنمية والازدهار والاستقرار. لقد أدركت إذاعة العيون مبكرًا أن معركة الصحراء ليست فقط معركة سياسية أو دبلوماسية، بل هي أيضًا معركة إعلامية وثقافية، تتطلب خطابًا مسؤولًا ومؤثرًا، يزاوج بين الإقناع والواقعية، ويعتمد المهنية والموضوعية في الدفاع عن قضايا الوطن وثوابته الراسخة.
كما كان للإذاعة دور محوري في تثمين الثقافة الحسانية ونقلها للأجيال الجديدة، إذ جعلت من هذا المكون التراثي ركيزة أساسية في برمجتها اليومية، من خلال فقرات وبرامج حوارية وشعرية وغنائية تحافظ على الذاكرة الحسانية وتبرز خصوصياتها الجمالية والاجتماعية. فاللهجة الحسانية، والأمثال، والأغاني الشعبية، والقصائد الملحمية، وجلسات الشعر الحساني التقليدي، كلها حاضرة في أثير إذاعة العيون، في انسجام تام مع روح الدستور المغربي الذي يكرس التعددية الثقافية واللغوية. وبهذا، أصبحت الإذاعة الجهوية فضاءً جامعًا لكل مكونات الهوية الصحراوية المغربية، ومجالاً مفتوحًا أمام المثقفين والفنانين والشباب للتعبير والإبداع والمشاركة في بناء الوعي الجماعي.
وعلى مدى نصف قرن، لم تكن إذاعة العيون مجرد وسيلة إعلام، بل كانت مؤسسة مواطنة بكل المقاييس. فهي تُقرب المعلومة من المواطن، وتواكب همومه اليومية، وتساهم في تأطيره وتوعيته، وتفتح له منبرًا للتعبير عن رأيه، في قضايا محلية ووطنية تهم معيشه اليومي وتنميته المجتمعية. كما أنها ساهمت في دعم برامج التنمية المحلية، من خلال تغطية المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، والانفتاح على المؤسسات المنتخبة والجمعيات والفاعلين المدنيين، مما جعلها مرجعًا إعلاميًا موثوقًا في الأقاليم الجنوبية.
ورغم ما تواجهه الإذاعة من إكراهات متعددة، سواء على المستوى المالي أو اللوجيستيكي أو البشري، فإنها تواصل أداء رسالتها الإعلامية بكل نكران للذات، معتمدة على كفاءة أطرها، وتفاني صحفييها وتقنييها، وإخلاص متعاونيها. ذلك أن الدعم المالي يظل محدودًا، في ظل غياب مساهمة الجهات والمؤسسات المحلية، ومع قلة الموارد البشرية العاملة بالمحطة، يبقى الإنجاز اليومي للإذاعة ثمرة اجتهاد وتضحية وعشق للمهنة والوطن.
وهنا لا بد من التنويه بالدور الريادي الذي يقوم به المدير الجهوي السيد محمد زازا الذي أعاد الحيوية والانضباط إلى المؤسسة، وساهم بخبرته وحنكته في وضع القطار على السكة الصحيحة، حيث عرف كيف يجمع بين الصرامة في التسيير والانفتاح على الكفاءات داخل الإذاعة. لقد قاد فريقه ببرنامج اسبوعي وشهري وسنوي واضح بروح تشاركية ومهنية عالية، مما انعكس إيجابًا على جودة البرامج والمحتوى، وجعل الإذاعة تستعيد إشعاعها داخل الجهة وخارجها. كما يُسجل له أنه جعل من الإذاعة فضاءً حقيقيًا للعمل الجماعي، قائمًا على روح الفريق واحترام القيم المهنية، مما جعلها تواكب بكفاءة كل الأوراش الكبرى التي تعرفها الأقاليم الجنوبية في عهد النموذج التنموي الجديد.
ولا يفوتنا أن نُحيي بحرارة جيل المؤسسين الأوائل الذين عملوا في ظروف قاسية، بإمكانيات محدودة، لكن بإرادة صلبة وحبّ عميق للوطن. أولئك الذين لم يعرفوا الراحة، فكانوا منارات في طريق الإعلام الجهوي المغربي. يستحق هؤلاء التكريم والاعتراف، ليس فقط لسبقهم التاريخي، ولكن لأنهم أسسوا لتقليد مهني أصيل يقوم على الصدق والالتزام والوطنية.
إن مستقبل إذاعة العيون الجهوية يرتبط اليوم بقدرتها على التحديث والتأهيل والانفتاح، لتواكب متطلبات المرحلة المقبلة التي تفرضها الدينامية الجديدة لمشروع الحكم الذاتي الذي ستشهده الأقاليم الجنوبية. لذلك، لابد من مرعاة المتطلبات التالية:
التفكير في بناء مقر جديد للإذاعة يليق بمكانتها ودورها التاريخي والإستراتيجي، ويكون معلمة إعلامية متكاملة ومركز إشعاع ثقافي بالمنطقة؛
الزيادة في عدد الصحفيين والإداريين والتقنيين لتقوية قدراتها الإنتاجية وضمان استمرارية خدماتها بجودة عالية؛
الانفتاح على صحفيين أجانب، خاصة من موريتانيا، لتوسيع دائرة التأثير الإعلامي في المنطقة المغاربية والساحل الإفريقي، حيث يصل بث الإذاعة إلى موريتانيا وجنوب الجزائر وشمال مالي، فضلًا عن الأقاليم الجنوبية للمملكة؛
التفكير في إحداث إذاعة جهوية بجهة كلميم واد نون بالنظر لموقعها الاستراتيجي وقربها من تندوف، ولوجود عدد كبير من الصحراويين (صحراويين حك حك) شرق الجدار يمكن للإعلام المغربي أن يتواصل معهم ويقربهم من واقع التنمية في وطنهم الأم.
وفي هذا السياق، تبرز كذلك، مجموعة من التوصيات العملية التي من شأنها تعزيز إشعاع إذاعة العيون الجهوية ودعم دورها الريادي في المرحلة المقبلة:
توسيع نطاق البث الأرضي للإذاعة بجودة عالية، ليشمل موريتانيا وجنوب الجزائر وشمال مالي، ترسيخًا لحضورها الإقليمي والإفريقي.
الاستثمار في خاصية البث الرقمي عبر الإنترنت لتوسيع قاعدة المستمعين داخل المغرب وخارجه ومواكبة التحول الرقمي للإعلام العالمي.
تأهيل البنية التحتية التقنية واللوجيستيكية للإذاعة بما يواكب التطورات الحديثة في المجال السمعي البصري.
إحداث مركز للتكوين الإعلامي الجهوي بمدينة العيون، لتأطير الصحفيين الشباب وتأهيلهم وفق المعايير المهنية الوطنية والدولية.
إطلاق شراكات تعاون إعلامي مع إذاعات جهوية إفريقية وموريتانية لتعزيز التقارب الثقافي والإعلامي في الفضاء المغاربي والإفريقي.
تكريم رواد الإذاعة الأوائل من صحفيين وتقنيين وإداريين عرفانًا بعطائهم وتضحياتهم في خدمة الإعلام الوطني.
تعزيز التمويل والدعم المحلي من المؤسسات المنتخبة والجهوية لضمان استدامة عمل الإذاعة واستقلاليتها الوظيفية.
خمسون عامًا من الريادة والالتزام، من المهنية والصدق، من العطاء المتواصل رغم الإكراهات. وإذا كانت الإذاعة الجهوية للعيون قد أدت رسالتها الوطنية بإخلاص في الماضي، فإن المستقبل يحمل لها آفاقًا أوسع ومسؤوليات أكبر، تتطلب دعمًا رسميًا ومؤسساتيًا يليق بمكانتها كصوت للمملكة الشريفة في عمقها الصحراوي الإفريقي. فتحية تقدير واحترام لكل من مرّ من هذه الإذاعة، من جيل التأسيس إلى الجيل الحالي من الصحفيين والتقنيين والإداريين الذين يواصلون المسيرة بنفس الحماس والإيمان، تحت إشراف مديرها الجهوي السيد محمد زازا، الذي أثبت أن القيادة بالقدوة والالتزام هي الطريق الأمثل لترسيخ الإعلام الجهوي الجاد والمسؤول، إعلامٍ يجمع بين الرسالة الوطنية النبيلة، والانتماء المحلي الجهوي والاقليمي، والانفتاح الإنساني الثقافي الإجتماعي على الفضاء المغاربي والإفريقي.
اترك تعليقاً