وجهة نظر

بنيعقوب: ما أشبه اليوم بالبارحة: من عبدالله إبراهيم إلى بنكيران ومن اكديرة إلى الهمة

يشبه الصراع الحالي بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين في المغرب من أجل السيطرة على جهاز الدولة و تقليص المجال المحفوظ للملك، يشبه ذاك الصراع الذي عرفه المغرب غداة الإستقلال بين اليسار القوي آنذاك، في شخص الإتحاد الوطني للقوات الشعبية بزعامة الراحل عبد الله إبراهيم، وحزب الإستقلال إلى حد ما، وبين الملكية والأحزاب التي أسست للدفاع عنها وعلى رأسها جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، بزعامة صديق الملك الراحل الحسن الثاني ومدير ديوانه الراحل رضى اكديرة.

إستطاعت الملكية في تلك الفترة أن تؤجل وضع دستور للبلاد إلى حدود سنة 1962، أي بعد مرور 6 سنوات على إستقلال البلاد، لتربح الوقت الكافي لإضعاف القدرة التفاوضية للقوى الوطنية التي خرجت قوية من معركة التحرير ولخلق قوى مضادة لها لمحاصرتها وتشتيتها، ولتكرس مجالا محفوظا لتدخلاتها في الشأن العام.

تميز الصراع آنذاك بثقافة الرفض المتبادل بين الملكية التي رأت في أفكار اليسار تهديدا لوجودها و خروجا عن إجماع الأمة، و بين حزب اليسار القوي والذي وصل إلى درجة وصف الراحل بنبركة لهذه التجاذبات الحادة، بكونها صراعا بين مشروعيتين الأولى ديمقراطية تقدمية، والثانية رجعية إقطاعية مستبدة، لتليها بعد ذلك مرحلة من الخلافات الحادة داخل المؤسسة البرلمانية وفشل المشروع الحزبي لرضى اكديرة الذي سيعود إلى مكانه الأصلي بالديوان الملكي بعد فشل حكومة الولاية التشريعية الأولى التي كان عضوا فيها، و الذي راهن على مشروع سياسي كان قد لقي عطف الملك، لينقلب الوضع بتدخل الجيش بعد إعلان حالة الإستثناء المتنازع بشأنها دستوريا و سياسيا، لتعرف المرحلة إرتفاع موجة الإحتجاجات الشعبية، ثم محاولات الإنقلاب العسكري. ليتم التوصل إلى قناعة مفادها ضرورة إدماج جميع الحساسيات السياسية، و خلق نوع من التوافق معها، خصوصا بعد إخراج القضية الوطنية للمشهد العام، و إعطاء القوات المسلحة دورا مهما فيها، ليلتف حول القضية الجميع، و يتم تأجيل حسم الخلاف للمستقبل، الذي لم يكن سوى في صالح المؤسسة الملكية مع التطورات الدولية بسقوط المعسكر الشرقي الشيوعي، لتدمج مكونات المعارضة التاريخية في مسار التدبير العمومي و السياسي للبلاد، ثم لتتقهقر إلى الخلف بعدما شكر الله سعيها على عملية تنشيط دورة الحياة المغربية.

بين ثنايا تلك الحقبة، و على حين غفلة من الفرقاء، ولدت و ترعرعت أجنة لمشروع سياسي و ثقافي مختلف الهوى والمرجع، و هو المد الإسلامي الذي مر هو الآخر عبر محطات الرفض ثم القبول ثم الإدماج في شخص حزب العدالة والتنمية لزعيمه عبد الإله بنكيران، ليتقلد بعد ربيع ساخن سمي عربيا، دفة الحكام ذوي الأيدي والألباب، وليترصده ويتصدى له هو بدوره مشروع حزبي ولد من قبل رجل يطوف هو الآخر في مطاف الملكية، وهو فؤاد عالي الهمة من خلال إنشائه حزب الأصالة و المعاصرة بشكل مباشر، ليرجع بدروه خطوة إلى الوراء إلى موقعه في الديوان الملكي، لنجد أنفسنا بعد مرور أزيد من خمسين سنة، نعيش واقعا سياسيا شبيها بالبدايات، يهيمن عليه صراعا من أجل السيطرة على جهاز الدولة بأدوات و خطاب شبيه بتلك المرحلة، لندور في حلقة البحث عن الوجود و فرض الذات غير مستفيدين من دروس الماضي و جروحه الغائرة و ألامه المستعصية على المهدئات.

قد يقول قائل أن الفرق شاسع بين الشخصيات المذكورة وبين البيئة العامة دوليا وإقليميا ووطنيا على جميع المستويات الاقتصادية الإجتماعية والسياسية، وأن المرحلة الأولى كانت مطبوعة باستقطاب دولي إيدلوجي حاد، وأن الدولة كانت فتية في طور بناء وإنتاج نفسها في حلة جديدة. قد يقال أيضا أن كاريزما الشخصيات متفاوتة ومنابع ثقافتهم متضاربة، و قد يقال أيضا أن اليسار الممثل في فترة البداية كان له مشروع مجتمعي محدد الهوية و المرجعية و التصور الإجرائي للسياسات العمومية، الشيء غير المتوفر في المشهد الحالي مع العدالة و التنمية، الذي غالبا ما يستعمل قواميس فكرية إجتماعية و سياسية متعددة توحي بوجود لبس أو تناقض مع الهوية الحقيقية للحزب، و توحي أيضا بغياب مشروع مجتمعي محدد الأركان و المنطلقات، و واضح المخرجات الإجرائية و المعيارية بشأن حكامة الدولة التي يريدها. كما قد يحتج البعض على هذا التشبيه بكون رضى اكديرة مارس السياسية بشكل ميداني مباشر إلى حين فشله في التصدي لليسار، ليعود إلى موقعه الأصلي، فيما فؤاد عالي الهمة وضع البرنامج و الأسس و القواعد و الشخوص و أعطى إنطلاقة الآلة ليتوارى عن المشهد قبل بداية جولات المبارزة، من دون أن يدعي أحد أن ذلك كان مجرد تجربة عابرة أو نزوة سياسية، بل في الواقع هو مشروع مضاد أو تكميلي حسب تصور الدولة لشكلها، و ليبقى هو في وضع يسهل عملية مراقبة الآلات العملياتية عن كثب و ربما توجيهها و رعايتها حتى لا يتكرر سيناريو اكديرة و بالتالي تفادي إحتمال الفشل و نسبه إليه بشكل مباشر.

من جهة أخرى قد يثار الفرق الواضح في شكل الدولة و مرافقها و أنه غداة الإستقلال لم تكن هناك دولة مرافق عمومية موازية تابعة للملك في التأسيس و التعيين كما هو الشأن حاليا بوجود مرافق موازية داخل كل قطاع، مما يفضي الى القول بوجود قطاعات مهمة برأسين أحدهما تابع للملك و الآخر للحكومة و لرئيسها، فنجد مثلا وزارة للتربية و التكوين و في مقابلها مجلس أعلى للتربية و التكوين و مكتب وطني للتكوين المهني، و لدينا وزارة للإتصال و الإعلام و في مواجهتها قطب إعلامي مستقل و هيئة عليا للإتصال السمعي البصري، و بذلك نجد وزارات عديدة في مواجهتها مكاتب وطنية مستقلة أو مندوبيات أو مفوضيات سامية تابعة مباشرة للملك لم تكن قد تشكلت غداة الإستقلال، الشيء الذي يعطي الإنطباع بوجود دولتين أو حكومتين ممارستين في نفس الوقت إحداهما لها طابع سياسي و الأخرى لها طابع سيادي غير خاضعة لتنافس المشاريع.

و مع ذلك كله، فإن ما يهمنا هنا هو ذلك النموذج أو التصور النظري لوصف العلاقات بين مختلف الفاعلين السياسيين و بين إستراتجياتهم المختلفة في التعامل فيما بينهم.

الإستراتيجية الأولى تتوخى إضعاف الحزب الأغلبي و دفعه للتخلي عن مشروعه الإسلامي غير المجمع عليه في البلاد، و إدخاله في توافق حول برنامج سياسي تحت مظلة الملكية كقاطرة للحياة العامة و للتنمية الشاملة. يجسد هذه الإستراتيجية، التي تستعمل جميع الأدوات المؤسساتية و التواصلية المتاحة، يجسدها سعي باقي الأحزاب لكبح الطموحات الإصلاحية لهذا المشروع الجديد، خصوصا مع إفشال النموذج الإخواني المصري و التونسي، الشيء الذي شجع على رفع وتيرة النزال و اللجوء الى السرعة القصوى لإضعاف حزب العدالة و التنمية.

في مقابل ذلك يعي رواد هذا المشروع الإسلامي قوة الوسطاء كقوة ثالثة بين المجال السياسي و بين الملك، ليختاروا إستراتيجية تدرجية في إدخال جرعات إسلامية للحياة العامة و المؤسساتية لتفادي التصادم و تجنب ردود الفعل الخارجية أو التخفيف من حدة تأثيراتها، و اختيارهم تكتيك التعامل و التواصل المباشر مع الملك و ليس مع الملكية كمؤسسة دستورية لها هياكل إدارية، بما يعنيه ذلك من ديوان ملكي و مستشارين، عكس باقي الأحزاب التي تحافظ على التراتبية القديمة في التلقي و العرض على مختلف مستويات البنية الإدارية للمؤسسة.

من جانب آخر إعتمدت إستراتيجية الطرف الثاني على فرض وجوده في المشهد لكسب إعتراف الجميع به ككائن غير “مقلق”، وقبوله للإندماج الكلي في النظام، الشيء الذي أضعف مجهوده في إحراز إصلاح حقيقي للشأن العام لعدم إدراجه كأولوية الأولويات، و بدل أن يتم تعامل هذا الطرف مع المرحلة الإستثنائية لما بعد الربيع و ما بعد دستور 2011، بدل أن يتم التعامل بأدوات إستثنائية لخلق الإجماع أو التوافق الضروري بين مختلف الفاعلين، لجأ إلى الأساليب العادية الكلاسيكية في التداول السياسي و التدبير المؤسساتي، لنبقى في نقطة البداية دون تقدم حقيقي في مسير الإنتقال نحو الإنتقال الديمقراطي، لعدم تحقيق نتائج فعلية على مستوى تفكيك الثقافة القديمة في إدارة التجمعات و البنيات المغربية بكل أصنافها.

ومجمل القول أن الطرفين لم يكشفا بعد عن رؤاهما الحقيقية حول القضايا الجوهرية، المرتبطة بالجانب الوجودي و الوظيفي للدولة و الأمة، و على رأسها النظرة لدور الدين في الحياة العامة و الحرية و الهوية و للمكون الأمازيغي عن طريق الإعتراف الفعلي به و إدماجه في الإنتاج السياسي و الثقافي و غيرها من القضايا، مفضلين تعقب بعضهما البعض في لعبة الفعل و رد الفعل و الخروج عن صلب القضية، قضية البناء الديمقراطي و كرامة المواطن.
المواجهة لن تكون في صالح أحد.

وبطبيعة الحال لن تكون المواجهة الصدامية بين التوجهين هي الحل، لكونها قد ترجع المغرب الى درجات سحيقة على سلم رقي الأمم، و أن التوافقات و الحلول التحكيمية للملكية قد تكون بمثابة ظابط للحياة العامة، و حلقة الوصل نحو تطوير النظام داخل منظور الجهوية الموسعة في مغرب يضم جميع أبنائه بمختلف مشاربهم، في أفق إيجاد حل توافقي للقضية الوطنية من شأنه أن يعزز ثقافة التنوع الوطني ليشكل ضمانة للإستقرار العام. كما أن إرجاع الثقة و القوة المستلبة للأحزاب الوطنية الكبيرة، و تحديدا للإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية و حزب الإستقلال اللذين يتمتعان بموارد بشرية قوية قادرة على المحاججة المعقلنة و الإيجابية، و قادرة على إنتاج الخطاب و الأفكار الإجرائية، من شأنه أن يعيد لمشهد الخصومة السياسية تنافسيته الطبيعية المفرزة للقوى الحقيقية داخل بنيان الدولة.

و أن أي استصغار للمد الإسلامي المتشعب في المغرب، لن يزيد الأمور إلا تعقيدا للنمو الطبيعي للدولة، باعتبار أن الإسلام ليس كالإشتراكية أو الشيوعية أو الليبرالية ذات المنشأ الأجنبي و التي لم تستطع أن تجد لها قبولا حقيقيا و عاما من طرف المغاربة، بل هو مكون يعرفه المغاربة جيدا و منذ قرون و لا يحتاجون لمن يقنعهم به، و كان دائما حاضرا على مستوى الملك من خلال وظيفة إمارة المؤمنين، و بالتالي توفر عنصر الجاهزية للتلقي و القبول بدون جهد كبير.

و مخطئ من يظن أن إفشال العدالة و التنمية هو إفشال للمشروع الإسلامي و للحركات المدافعة عنه، فالطابور طويل، يضم تيارات مختلفة على رأسها جماعة العدل والإحسان والحركة السلفية اللتان تراقبان التجربة الحالية عن بعد، لتحددا مواقفهما من خلال النتائج التي سيحققها إخوانهم في الحكومة الحالية و الإستفادة من المناطق التي “غزوها” و من الأخطاء التي إرتكبوها لتصبح بمثابة “بث تجريبي” قبل التطبيع النهائي.

و تبقى جماعة العدل والإحسان ذات النزعة التصوفية المعتدلة -العدو الوهمي للنظام- تبقى الأكثر قربا من الملكية المغربية، لكونها جماعة لا تتبنى التطرف أو العنف في مواجهة النظام، وليس من أولوياتها زرع قاموس الحلال والحرام كما هو الشأن بالنسبة للوهابية، ولها تقدير خاص لآل البيت ولم يسبق أن دعت للخروج عن طوعهم حتى في أحلك أيامها، بل كان شيخها الراحل عبد السلام ياسين “واعظا” ومحاولا إرشاد الملكين الذين عاصرهما وهو على مذهب الجماعة.

هذه العوامل قد تشكل جسرا للتحاور معها، لتصبح قوة إحتياطية بجانب الملكية، و أن إعطائها الوقت الكافي لوضع إختياراتها الجديدة، كفيل بمباشرة المراجعات الضرورية لتمييز نفسها عن التنظيمات المتطرفة ذات الثقافة العنيفة في التغيير، خصوصا مع ظهور جيل جديد داخلها أكثر إنفتاحا على التجارب الدولية والأجنبية وأكثر براغماتية، قد يصبح يوما ما قاطرة نحو تجديد رؤية الجماعة ونحو التفاوض من أجل مشاركة بناءة وفق تعاقدات وتنازلات من جميع الأطراف.