منوعات

اليحياوي يكتب…الديكتاتورية والديكتاتور

الديكتاتورية شكل من أشكال الحكم، تتمركز وتتركز بمقتضاها السلطة، كل السلطة، بين يدي فرد واحد، تندغم من بين ظهرانيه كل مكونات الأرض والشعب والثروة والحكم وما سواها.

والديكتاتور، بهذا الموجب، هو الفرد الذي يثوي مباشرة خلف حكم مطلق، لا يقيده دستور أو قانون أو أعراف أو تقاليد. إنه هو الذي يملي على الآخرين، فينفذوا دون تساؤل، يصدر الأوامر والأحكام، فيطبقها الآخرون دون بحث عن مسوغات، ينطق عن الهوى، فيلقى نطقه التصفيق والتهليل، يقرر فيطاع، ليس بحكم “سداد في الرأي”، بل لكون شخصه مكمن عصمة، وعلى سلوكه وممارساته ختم إلهي لا يدركه إلا مريدوه… وكل الشعب مريده.

ولما كان الأمر كذلك، فإن الديكتاتور يشيع منظومته بكل مفاصل الدولة والشعب، يكون هو لا غيره، أفرادا أو جماعات، المركز والمحور، لا بل قل القطب الذي تدور حوله كل الأجرام، وبكل الجاذبيات المتاحة.

ومع أن الديكتاتور لا يستطيع النهوض وحده بكل أعباء منظومته، فإنه ينشئ من حوله بنى وهياكل ومؤسسات، لا تقوم في مهامها مقام الموسطة بينه وبين الشعب، بل تعمد إلى تصريف أفكار الديكتاتور وقراراته وأوامره.

وعلى هذا الأساس، فإن أكبر وأقوى سند يرتكز عليه الديكتاتور إنما الحزب الواحد، أداته القصوى لـ “تأطير” الجماهير وتطويعها وتوجيهها حيثما يرضى الديكتاتور، ويرتضيه لها بالحاضر كما بالمستقبل: إنه الأداة التي تسهر على ترويج إيديولوجيا النظام والمنظومة، والوسيلة المباشرة، بالمدن والقرى والمداشر، التي تشيع معتقدات الحزب و”قيمه”.

أما ثاني أكبر وأقوى أداة بيد الديكتاتور، فتكمن في وسائل الإعلام، المكتوب منها كما المسموع كما المرئي، توظف مجتمعة، كل وفق طبيعتها ومدى ما قد تبلغه من جماهير، توظف لتمرير إيديولوجيا النظام بالكلمة والصوت والصورة، كل وحدها، أو بالتوازي والتوازن فيما بينها.

إن وسائل الإعلام المختلفة لا تقل أهمية وفعلا بالقياس إلى دور الحزب الحاكم، إنها سلطته الناعمة واللينة، المواكبة حتما للسلطة الخشنة والصلدة، التي غالبا ما تتكفل بها الأجهزة الأمنية والمخابراتية، التي تحصي على الشعب حركاته وسكناته، حتى يبدو المجتمع، كل المجتمع، ولكأن الكل مع الكل ضد الكل.

أما ثالث أقوى أداة بين يدي الديكتاتور، فهي المجموعات الاقتصادية والتجارية والمالية التي تراكم الثروة، لكنها تضعها رهن إشارة الديكتاتور، يغرف منها ما يشاء ومتى عنّ له ذلك: إنها لا تعمل وتتربح إلا بفضله، وقد تكسد بضاعتها وتفلس مشاريعها إن هي فكرت، لمجرد التفكير، في التظلم أو التشكي، أو في زعم ما بتمايز مصالحها عن مصالح الديكتاتور.

أما المثقفون، في صلب كل ذلك، فهم عضد المنظومة الرمزية التي تنبني عليها إيديولوجيا النظام: إنهم الذين يزينون له الخطاب، يسوغون له الممارسة، يبنون لمنظومته بالحجة والدليل والتنظير، ولا يتوانون في تبرير أخطائه، فما بالك خطاياه.

هي إذن منظومة متكاملة ومتناسقة وفعالة، لا بل قل وناجعة، لا يستطيع أحد، من داخلها أو من الخارج، أن يزايد على تناسقيتها كثيرا، أو يقوضها، أو يأتي بنقيض لها من أمامها أو من خلفها.

ثم هي منظومة تشترك فيها كل النظم، الجمهوري منها كما الملكي، لا بل إن الأمر أشد وأفظع بالحالة الثانية، بحكم ادعاء الأسرة المالكة للقدسية، وتنطعها باحتكامها لحصانة مطلقة، لا يمكن الطعن فيها أو التشكيك فيها، فما بالك المزايدة عليها.

إن سياق ما سبق من حديث إنما جرى ويجري بالعالم العربي منذ أكثر من خمسة عقود، ولا تزال أطواره جارية هنا وهناك بهذا الشكل أو ذاك:

– فنظم الحكم نجحت في استنبات منظومة مادية ورمزية، صالت وجالت حتى أدغمت الدولة والمجتمع من بين أضلعها، فباتت المنظومة، كل المنظومة، متمحورة حولها بحكم الإيديولوجيا التي تروجها، وأيضا بحكم نجاحها في خلق السبل والمسالك لإعادة إنتاج ذات الإيديولوجيا، بلبوس جديد أو بمظهر مختلف.
– والنظم إياها نجحت في بسط هيمنتها على وسائل الإعلام، حتى باتت إيديولوجيا الحزب، وخطب الرئيس و”حكمته”، مادة الكلمة والصوت والصورة آناء الليل وأطراف النهار دون منازع.

– ونظم الحكم هاته نجحت في خلق لوبيات في الاقتصاد والمال والأعمال، اندغم الاقتصاد الوطني في صلبها بالجملة والتفصيل، وباتت قطاعات بأكملها حكرا على هذا الاسم أو ذاك، ومشاريع برمتها في ملك هذا الشخص أو ذاك.

لم يقتصر ذات النظام على ذلك، بل فسحت في السبل لذات اللوبيات، لتنتصب شامخة بـ”المجالس النيابية” وبـ”مجلس الوزراء”، تشرع وتقرر، لا بل وتعمق دون حياء أو خشية، زواج السلطة والسياسة في أفظع صوره.

– أما المثقفون، فقد أطنبوا في المدح والمديح، حتى بات جلهم من مثقفي السلطان بامتياز، كانوا يغدقون الكلمات على الديكتاتور، فيما كان يغدق عليهم العطايا والهدايا والجوائز.

إن هؤلاء كما أولئك، لم يكونوا يدركون أنهم بمديحهم هذا لا يزينون الديكتاتور، بقدر ما كانوا يزينون الديكتاتورية.

لذلك، فعندما انفجرت انتفاضات “الربيع العربي”، لم ترفع الجماهير شعارات إسقاط الديكتاتور، بل أيضا شعارات إسقاط منظومة الديكتاتورية.