وجهة نظر

وأخيرا.. قانون لمناهضة عنف ينصف نصف المجتمع

في خطوة جريئة و”تقدمية”.. استطاعت وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، المحسوبة على الحساسية الإسلامية، أن ترفع أسر التحفظات وتتجاوز أغلال الطابوهات بطرحها لقانون نوعي جدا.. خاص بالعنف ضد المرأة. وهو القانون الذي ظل يراوح مكانه لسنين عديدات من الزمن، كادت تتجاوز الخمسة عشر سنة، دون أن يستكمل أي نص قانوني في بابه مسيرته التشريعية إلى أن ينال حظه في النشر والإعمال، كما هو شأن باقي القوانين الجاري بها العمل.

وها هي اليوم، وزيرة في حكومة ائتلاف سياسي وإيديولوجي، بقيادة حزب محسوب على التوجه الإسلامي، تمكن المرأة المغربية، بعد نضال طويل للحركتين الحقوقية والنسائية، من منظومة قانونية خاصة ونوعية معنية، أساسا، بمعالجة تناقض مركزي متمثل في مناهضة العنف ضد النساء. منظومة قانونية، في نسق واحد منتظم وفق نواظم مفاهيمية ومعيارية وإجرائية منسجمة، غايتها تعزيز الترسانة القانونية الحمائية للمرأة من كل عنف يُوجه إليها، لا لشيء إلا لأنها امرأة. وذلك، لاستدراك حالات الارتباك والشتات التي كانت تتخبط فيها كثير من المقتضيات القانونية المتعلقة بمسألة العنف ضد المرأة، والمتناثرة في مدونة القانون الجنائي وبعض القوانين القليلة الأخرى، والتي كان يعوزها للأسف الانتظام والانسجام، بل في كثير من الأحيان ما كان يرد التناقض بين مضامينها وينشأ التضارب بين توجهاتها.

ولا شك أن المغرب بهذه الخطوة الجبارة سيكرس مسيرته نحو مزيد من الديمقراطية والمساواة بتعزيز باقي جهوده لمناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة، وممانعة كل التعبيرات والسلوكات العنفية، المادية والرمزية، التي تحط من قيمتها أو تخذش بكرامتها، إما احتقارا وامتهانا أو تشييئا واستغلالا. لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار، بهذا الصدد، انكباب البرلمان، بغرفتيه، على تشريع مشروعي نصين قانونين آخرين ليسا ببعيدين على موضوع هذا القانون، وهما بالتحديد مشروع قانون هيئة المناصفة ومناهضة كل أشكال التمييز ومشروع قانون المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة.

ولعل في توارد هذه النصوص الثلاثة ما يؤشر على مقدار تكاملية المجهود التشريعي الوطني من أجل النهوض بواقع المرأة في مختلف مستوياته السياسية/الإدارية والاقتصادية والسوسيو-ثقافية. وهو ما يرقى بهاته المعالجات جميعها إلى توسيع نطاق مفهوم النهوض بوضع النساء، بما يتجاوز محدودية الاقتصار على تحسين وضع المرأة في المجالين السياسي والإداري، دونما اهتمام بالجوانب الأخرى من صور عيشها ومعاناتها.

ويبدو أن في تكامل هاته النصوص مع قانون لمناهضة العنف ضد النساء ما سيفضي إلى النهوض بالوضع الاجتماعي للمرأة ويصلح العديد من مظاهر ثقافتينا الموروثة الراكدة والدخيلة الوافدة، واللتين لم تكرسا سوى دونية للمرأة، مرة باسم الدين والهوية، ومرة باسم الحداثة والعصر.

ومن المتوقع أن يكون النقاش حول هذا القانون فرصة للرمي بحجرة تحرك مياه بركة آسنة مسنودة بثقافة رجعية منكفئة إلى الوراء تمتهن المرأة باعتبارها موردا لفتنة، وثقافة مفتعلة لعصرنة تشيئ المرأة ولا ترى فيها سوى موردا لإثارة.

كما أنه من المؤكد أن يستكمل هذا القانون مسيرة المغرب نحو تبني جيل جديد من الحقوق الفئوية التي تعيد العناية بشرائح واسعة من المجتمع ظلت لعقود مستبعدة عن ممارسة حقها في بناء الوطن والإفادة من مقدراته وثرواته. ولعله الأمر الذي كرسه دستور 2011 في ديباجته بالنص على مناهضة كل أشكال التمييز، لا سيما التمييز الممارس بخلفية التمايز الجنسي.

غير أن أحد الإشارات الضمنية التي يبرزها هذا القانون، هو استئناف تلك اللحظة التوافقية التي تأسس عليها هذا القانون، بعد أن استطاعت حكومة بأحزاب مختلفة إيديلوجياتها بأن تتواطأ على نص قانوني واحد، بعد أن فشلت حكومات عديدة لمدة تتجاوز، على الأقل، 15 سنة عن وضع قانون خاص بمناهضة العنف ضد النساء. ولعلها اللحظة القريبة من ذات النفس التوافقي الذي انخرطت فيه مختلف الحساسيات الإيديلوجية والسياسية والفكرية، برعاية ملكية، في صياغة قانون مدونة للأسرة، والتي كانت بحق تعبيرا عن لحظة نموذجية استطاع المغاربة جميعا أن يصونوا وحدتهم في ظل من التعدد الفكري والإيديولوجي.

ويبقى النجاح في وضع هذا القانون رهين بشرطين أساسيين: أولهما، الاستمرار على ذات النهج التشاركي والنفس التوافقي بين مختلف المعنيين في مناقشة وتشريع هذا القانون، مادامت الحاجة إلى هذا القانون حاجة مجتمعية تستجيب لمطالب العديد من المعنيات والمعنيين بالشأن النسائي؛ ثانيهما، استثمار هذه اللحظة لتعميق النقاش العمومي حول مسألة المرأة في المجتمع المغربي، باعتبارها لحظة في العمق لتجديد النظر في كثير من مظاهر الثقافة التي تستلب المرأة كينونتها الإنسانية وحيويتها المجتمعية، وبما يعيد الأولوية لإصلاح أعطاب ثقافتينا الموروثة والمنقولة، واللتين لا تريا في المرأة سوى جسد يجب تغطيته أو تعريته. وهي الخطوة التي تستدعي تجديد رؤيتنا حول موضوع المرأة بما يحفظ لها كرامتها ويصون ذاتيتها، وبناء خطاب وطني جديد يركز على المرأة باعتبارها كائنا إنسانيا أودعه الله سره، وكلّفه حمل أمانة الاستخلاف والاضطلاع بواجب عمارة الأرض، جنباً إلى جنباً مع أخيها الرجل، على أرضية أساسها المسؤولية المشتركة والمتساوية.. وغايتها الاحترام المتبادل والتعاون الأخوي، وأين نحن من قوله تعالى: “والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض، يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم” (سورة التوبة، آية 71)، وما الولاية في أدناها سوى المحبة الواجبة، وفي أعلاها تعاون على الخير وتعاضد على المشاركة المتفاعلة والمتساوية في تنمية الأوطان ونهضة الأمم.