الخطاب الملكي وتجاوز السلطة الجزائرية

في خطابه الأخير، وجّه الملك محمد السادس تحية صريحة ومباشرة إلى الشعب الجزائري، مؤكدًا على أواصر الأخوة والتاريخ المشترك بين الشعبين، دون أن يتطرق بأي شكل إلى النظام السياسي الجزائري أو إلى مؤسساته الرسمية، هذه الانتقائية في التوجيه ليست مجرد اختيار لغوي عفوي، بل تحمل دلالات استراتيجية عميقة على مستوى البنية الخطابية والوظيفة التداولية، وتستحق قراءة علمية دقيقة في ضوء نظريات تحليل الخطاب السياسي.
يأتي الخطاب في سياق إقليمي متوتر، يتسم بقطيعة دبلوماسية وصدام إعلامي بين المغرب والجزائر، وبتراكم تاريخي من سوء الفهم والمؤامرات الرمزية، ما يجعل كل كلمة في الخطاب الملكي محمّلة برهانات سياسية دقيقة. غير أن اللافت في هذا الخطاب هو توجيه الرسالة مباشرة إلى الشعب، دون ان يتطرق بشكل مباشر الى السلطة الحاكمة ، فيما يشبه إعادة ترتيب الفاعلين في المشهد المغاربي، وتموضعًا رمزيًا يعيد تعريف من يستحق المخاطبة ومن فقد شرعية التواصل.
وفق نظرية الأفعال الكلامية التي صاغها أوستن وسيرل، فإن خطاب الملك لا ينقل موقفًا فحسب، بل يمارس فعلًا اجتماعيًا من خلال اللغة نفسها. فتوجيه التحية للشعب هو فعل التزام وتعبير عن نية سلمية، لكنه أيضًا، وبشكل غير مباشر، إزاحة للمسؤولية عن التوتر، وتجريد للسلطة الجزائرية من صفة المحاور الشرعي. فحين يخاطب الملك شعبًا دون دولته، فإنه لا يعترف ضمنيًا بسلطة النظام كوسيط أو كممثل لهذا الشعب.
وتعزز نظرية الحضور والغياب، كما طورها تيون فان دايك، هذا الفهم؛ إذ إن ما يُقال وما يُسكت عنه يحملان معًا دلالة النص، حيث ان الحضور القوي للشعب الجزائري في الخطاب، مقابل غياب مطلق للنظام، يعبّر عن استراتيجية رمزية دقيقة تتمثل في تفكيك احتكار التمثيل، وتحميل النظام مسؤولية العزلة، دون الحاجة إلى مواجهته مباشرة. فالخطاب يمد يد الأخوة في اتجاه من يعتبره الملك الطرف النزيه، متجاوزًا من يرى أنه يكرّس الانقسام والتوتر.
أما من زاوية التحليل النقدي للخطاب، كما يُقاربها نورمان فيركلاف، فإن الملك لا يكتفي بتوصيف العلاقات الثنائية، بل يعيد تشكيلها رمزيًا عبر الخطاب نفسه بالحديث عن الأخوة والتقارب والتاريخ المشترك مع الشعب، دون الدولة، وهذا يوحي الى ممارسة فعلية للسلطة الرمزية التي تسعى إلى تجاوز موازين القوة السياسية المباشرة نحو صوغ شرعية مغايرة، قوامها الأخلاق والانتماء الحضاري المشترك. بهذا المعنى، يتحول الخطاب من أداة للتواصل إلى وسيلة لإنتاج مشهد جديد للعلاقات.
ويبرز في الخلفية أيضًا ما يسميه بيير بورديوبـ «العنف الرمزي”، حيث تُمارَس الهيمنة الناعمة لا عبر الهجوم، بل عبر انتقاء من يُخاطَب ومن يُقصى. في هذا السياق، فإن تغييب النظام الجزائري لا يعني تجاهله، بل هو شكل من أشكال نزع الاعتراف، وهو أقسى من المواجهة المباشرة أحيانًا، لأنه يجرّده من شرعية التمثيل. بالمقابل، فإن توجيه الرسالة إلى الشعب يعيد توزيع الرأسمال الرمزي بين الفاعلين، ويكرّس المغرب كطرف سلمي يسعى إلى التقارب من أسفل، لا من خلال صفقات السلطة بل عبر رابطة الانتماء الشعبي.
إن الخطاب الملكي بهذا الشكل والحالة هاته، لا يُنتج موقفًا فحسب، بل يؤسس لرؤية سياسية عميقة، تقوم على وحدة الشعوب بدل تناقض الأنظمة، وعلى التاريخ المشترك بدل الحسابات الظرفية. وهو بذلك يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ «الخطاب الدبلوماسي المشروط”، حيث تُطرح اليد ممدودة، لكن ليس للجميع، بل لمن يستحقها أخلاقيًا وتاريخيًا. هذا النوع من الخطابات يملك قدرة عالية على التأثير دون صدام، وعلى بناء المشروعية دون توسل.
إن توجيه الخطاب إلى الشعب الجزائري، واستبعاد السلطة الجزائرية، لا يُفهم فقط كرسالة حسن نية، بل هو أيضًا تحوّل في طبيعة المخاطب في الخطاب السياسي المغربي تجاه الجوار. إنه تعبير عن وعي بأن التغيير الحقيقي لا يمر دائمًا عبر قنوات السلطة، بل عبر الاستثمار في الذاكرة المشتركة والمصير المشترك لشعوب المنطقة. وهنا بالضبط تبرز القوة الناعمة للمغرب، الذي يضع خصمه السياسي في عزلة، بينما يمد اليد إلى من يعتبره شريكًا حقيقيًا في صناعة المستقبل.
بهذا المعنى، يتجاوز الخطاب الملكي منطق الرد على العداء، ليرسم أفقًا جديدًا للسلام المغاربي، سلام يبدأ من الشعب، ويُقصي الأنظمة حين تصبح عائقًا أمام التقارب.
اترك تعليقاً