من العمق

فاتح ماي.. تراجع وهج مستمر أدكاه هيمنة السياسي على النقابي

واقع التراجع المستمر لوهج ومستوى الحضور الكمي والنوعي للنقابات باحتفالات اليوم العالمي للعمال الذي أصبح يصادف فاتح ماي من كل سنة بالمغرب، يدعو للتساؤل حول أسباب هذا التراجع وما إن كان الأمر يتعلق بالحالة الداخلية لهذه النقابات؟ أو بالتجاوب الحكومي الاستباقي مع العديد من المطالب العمالية؟ أو لأجواء تطبع هذا اليوم لم تعد تغري الشغيلة والعمال الذين بالتأكيد لم يتحدوا في يومهم المفترض؟

أمام عقود من الممارسة “النقابية” بالمغرب أصبح اليوم مشروعا طرح أسئلة الحكامة والديمقراطية والنضال المسؤول والواعي على هذه النقابات، وتكسير طابو تفيد مقولاته بتجريم انتقاد النقابات فقط، لأنهم يدعون تمثيل العمال والمأجورين والدفاع عن مصالحهم المادية والمعنوية، -وبصرف النظر عما يمكن أن يكون من نضال جاد ومبدئي لدى بعض هذه النقابات- فإنها وفي المجمل تعد مركزيات نقابية أكثر تمثيلية من الممثلين، بل منهم البارع في ذالك إلى مستوى منافسة أخطر المجرمين في أعمال “ساعة في الجحيم” أو “مداولة” وهو التمثيل النقابي من التمثيل وليس من التمثيلية الذي تؤكده مؤشرات عدة. أبرزها:

أولا: من معضلات النقابات بدون استثناء حالة هيمنة وإلغاء الفعل السياسي للفعل النقابي أحيانا، إلى درجة تصبح النقابة تابعة للحزب –لا مشكلة هنا في التنسيق أو الشراكة أو القرب- المشكل كل المشكل في الإلحاق إذ تصبح النقابة معبرا عن الموقف السياسي الظرفي للحزب حيث ما مال تميل معه، ويحضرني في هذا الإطار مطالبة محمد كافي الشراط رئيس لجنة تسيير بالاتحاد العام للشغالين بالمغرب، في تصريح للصحافة، عقب إحدى الاجتماعات، السنة الماضية مع الحكومة ب”توقيف العمل بإصلاح صندوق التقاعد”. كما نتذكر السياق الذي كان يحكم النص آنذاك وكيف طلب حميد شباط من النقابات الأخرى الانضمام إليه في إحدى المسيرات فرفضوا، ثم حدث أن دعو لمسيرة أخرى فرفضوا أيضا مشاركته معهم لأنه كان أمينا عاما وموجها لنقابة الشغالين في نفس الوقت.

هذه السنة عرفت دعوة صريحة من تيارات سياسية “غير مشاركة” للحضور القوي في فاتح ماي، فضلا عن كون بعض القوى الأخرى لا تنتعش ولا تفك العزلة عن نفسها إلا في مثل هذه المناسبات، وهو توجه كان حاضرا بقوة في احتفالات 2016 لكنه ظل معزولا ودون تأثير يذكر، ففي مثل هذه المناسبات تجدها بعض الكيانات فرصة للتعبير عن مشروعها السياسي الخارج أو المطرود من اللعبة بل يحدث نوع من التجدر الكلامي اتجاه النظام والمخزن والحكومة وكأن الأمر ينبئ بثورة عمالية، غير أن تلك الشعارات سرعان ما تذهب أدراج الرياح.

ثانيا: عادة ما ترفع النقابات مطالب دمقرطة المؤسسات والحياة العامة بل أصبح الاختيار الديمقراطي ثابتا من ثوابت دستور2011. طيب أي منطق هذا الذي يجعل ديناصورات بشرية تقضي عقودا على رأس نقابة مثل حالة نوبير الأموي في الكونفدرالية الديمقراطية للشغل “كدش”، وفي الاتحاد المغربي للشغل -فلولا تدخل عزرائيل بأمر من فوق سبع سماوات- لما اعتلى مخاريق مقعد ابن الصديق، ويستثنى من هذا الوباء نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب التي وعلى عكس ما كان الجميع ينتظر ويتوقع، انسحب الزعيم النقابي محمد يتيم بهدوء وروية وترك مقعده لخلفه الحلوطي والأيام دول.

ثالثا: في الوقت الذي ترفع فيه المركزيات النقابية “الأكثر تمثيلية” شعارات الإشراك والتشاور والحوار، تتذكرون كيف دبرت نقابتي الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والاتحاد المغربي للشغل، واليوم تنضاف لهم نقابة الفدرالية الديمقراطية للشغل الخلاف بينهما بالأسلحة البيضاء وآليات هي الإجرام والبلطجة بعينهما ومنها قضايا لم تحل إلا بتدخل رجال السلطة وأخرى عن طريق القضاء، بسبب ذلك شهدنا أكثر من نقابة، ومنها الاتحاد المغربي للشغل خرجت بمسيرتين في فاتح ماي الماضي والحالي واحدة محسوبة على الكاتب الوطني للاتحاد والثانية على مجموعة النهج الذي سمى نفسه التوجه الديمقراطي من داخل الاتحاد؟، فهل يمكن لإطارات لا تجيد غير التشرميل النقابي أن تدير الحوار مع الحكومة أو مع لباطرونا؟ أم أن لا أحد يريد طرح هذه الأسئلة.

ولعل الجسم الصحفي يتذكر المسيرة الباهتة للنقابات الثلاث في السادس من أبريل 2015 بالدار البيضاء وكيف حشدت أحزمة السراويل لتنهال على رؤوس الصحفيين بطريقة تؤكد فكرة أدوار الرعب في مشاهد من مسلس التمثيل النقابي التي تجيدها هذه النقابات.

رابعا: يسجل باستغراب متبوع بعشرات علامات الاستفهام والتعجب “الجهود” التي تبذلها العديد من المركزيات النقابية، وعلى رأسها (الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، والفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد المغربي للشغل) من خلال مراسلات لرئيس الحكومة وتواصل مباشر معه يطالبونه بعدم إخراج قانون الإضراب لحيز الوجود، كما أنها لم تجب على مراسلات عدة وجهت لها من طرف الحكومة تستطلع رأيها في الفلسفة والمضمون والمقترحات التي تهم صياغة قانون الإضراب، بالله عليكم هل رأيتم نقابات يوما تطالب بعدم إخراج قانون ينظم الإضراب بالقطاعين العام والخاص، ولا يتفاعلون معه وهم أول المشاركين فيه، فماذا يعني هذا؟

بل نتذكر كيف طالبت بعض النقابات بمطالب غاية في الغرابة من قبيل عدم تفعيل قانون التعويض عن الطرد من العمل، والمطالبة بسحب قانون النقابات المهنية، وسحب مشروع قانون مدونة التعاضد المحال على البرلمان على الرغم من المطالب المتعددة بالإسراع بإخراج هذه القوانين، خاصة منها ما يهم قطاع التعاضد الذي يعرف فوضى كبيرة بشهادة النقابيين أنفسهم.

بعد كل هذا لا مراء في الدور الاستراتيجي للعمل النقابي في الدفاع وتحصين المطالب المادية والمعنوية للشغيلة والمصالح الفئوية، لكن أليس المطلوب وبالتوازي خضوع الحكومة والنقابات على حد سواء لسلطة المجتمع، لقياس مدى ارتباطها به وبهمومه أولا، وثانيا للوقوف على الحالة الصحية للنقابات ومدى تمثلها لأدبيات وشعارات طالما تغنت بها، بعضهم يطرح كذلك أن التوجه الاجتماعي وفلسفة التضامن للحكومة الحالية؛ جعل من النقابات دون دور تقريبا حيث تفاجئهم الحكومة باتخاذ إجراءات حتى قبل أن يطالبوا بها، بل إن مصادر أسرت أن بعضهم يطلب من الحكومة فقط أن تعطيهم السبق في إعلان بعض المكاسب وألا تعلنها هي.

بكلمة إن العمل النقابي عمل شريف ونبيل في أصله لكن نجاحه مشروط بنبل وشرف من يمارسه كذلك.