وجهة نظر

ملف الطلبة المتدربين بين النقابية والنقابوية الفوضوية

قبل الابتداء في التحليل لابد من التنبيه إلى أننا لا ننكر حق الأفراد والقطاعات في تقدير مصالحها والنضال من أجل انتزاعها، فإن ذلك قانون تنتظمه الحياة ولا يملك أحد التنكر لمشروعيته، لكن منطق الأشياء يتيح لنا إمكانية التأمل في الأحداث التفصيلية، واستكشاف معالم القانون الناظم لها، دون تولي كبر اتهام أحد في نيته أو استبطان سوء النية في القراءة أو التهجم غير المبرر، إذ أن ذلك –في تقديرنا- يعد الحد الأدنى لممارسة “الإنسانية” التي ُتحصن الأفراد والجماعات -على مستوى الفهم- من التحول إلى بيادق يُلعب بها على رقعة شطرنج لصناعة مجد على جمجامها..

من المجمع عليه بين الباحثين أن أحداث التاريخ ليست تفاصيل متناثرة يحكمها قانون التراكم العبثي، بل هي تفاصيل تترابط عناصرها لتشكل قانون تطور التاريخ، سواء كانت تلك التفاصيل أحداثا ضخاما في حياة البشرية تبرر تطور التاريخ الإنساني العام، أو كانت أحداثا محصورة في الزمان والمكان تساهم في تطور الحياة الاجتماعية بمنطق نسبي بحسب السياق المدروسة فيه.

من هنافإن كل متابع لمسار قضية الطلبة الأساتذة المتدربينلا يمكن أن تغفل عينه وجود مرجعية فلسفية ناظمة مستترة وراء الأحداث التفصيلية، قائدة للحراك بوعي من طائفة من الطلبة الأساتذة، وبغير وعي من السواد الأعظم منهم..

وبيان ذلك أن في مسار الفعل السياسي في المغرب اتجاهان كبيران:

1- اتجاه يرى المشاركة السياسية ومنهج المدافعة منهجا للتمكين للنور بقدر ما يطرد الظلمة في مسار تحكمه سنن الله في التاريخ، بين كر وفر وتقدم ونكوص في غير تغيير في المبادئ والمنطلقات.

2- واتجاه آخر لا يرى في المدافعة مسلكا طالما أن (المخزن) مازال باسطا ذراعه على مساحة المبادرة السياسية، ويرى هذا الاتجاه أن لا مسلك للتغيير إلا أمران:

• إما تأزيم الوضع بإقناع المواطنين أن الثورة/القومة هي المنفذ الوحيد للتغيير
• وإما الانتظارية التي يتحقق فيها الكمون حتى تتهيأ ظروف الثورة/القومة

وللأمانة فإن التيارين في الاتجاهان معا –في التجربة المغربية- يذمان العنف (في مستوى حمل السلاح) ولا يريانه مركبا مأمون النتائج قطعا، بل يصنفانه تصريحا او ضمنا في خانة المغامرة غير المقدور على حساب عواقبها…

داخل الاتجاهين الأول والثاني، تصطف قوى من مختلف المشارب والمرجعيات الفلسفية، بين إسلامية وقومية وماركسية…تؤطر خياراتها الاستراتيجية كما التاكتيكية، داخل نسقها المعرفي السالف البيان بعض تجلياته التنزيلية.

وإذا كان الاتجاه الأول واضح التجلي في اختيار “حزب العدالة والتنمية” الذي يقود ائتلافا حكوميا من أربعة أحزاب تتولى مجتمعة تسيير الشأن العام في حدود معتبرة، هي المساحة التي استطاع خيار المدافعة اقتطاعها إلى حدود الآن من بين يدي أطراف أخرى احتكرت السلطة منذ زمن بعيد،فإن الاتجاه الثاني تتجاذبه تنظيمات غامضة هلامية الحدود لكنها تتمظهر في شكل فلسفات تنتج مواقف تفصيلية يكون مساحة تجليها هي المعارك الجزئية التي تُخاض ضد مختلف مكونات “النظام/المخزن/القصر/الحكومة” بحسب تعابيرهؤلاء…. وتتقاطع مع المعارضة واضحة الحدود والمعالم التي تتنوعها أحزاب بين التوجه اللبرالي والاشتراكي ذي الخلفية الماركسية على مستوى التوجهات الاقتصادية على الاقل…

في هذا السياق الكلي تتموضع معركة “الطلبة الأساتذة” بحيث أن هذه القضية ليست من البراءة التي تظهر للعابر، بل هي من العمق بحيث تختزن تفاصيل تمثيلية لما سطرناه نظريا سلفا.

إن الاشتغال بتصنيف معركة “الطلبة الأساتذة” في خانة كلية واضحة المعالم تسهل فهمها والتعامل معها يضني صاحبه أيما إضناء، إذ ان المعركة تفرض نفسها على مستوى التمظهر في سياق “نقابي” و”اجتماعي”، لكنها على مستوى العمق تختزن في حوافزها ومسارها بعدا فلسفيا وإديولوجيا عميقا.

لفهم هذا العمق الحافزي لابد من تفكيك عناصر تشكل إديولوجية عند البعض، تعود عناصر هذه الإديولوجية إلى وقت كان فيه منظرو الفكر الفلسفي “الماركسي” يرون أن التغيير ذو مسار أفقي لا يمكنه الانتكاس إلى الوراء، وأفقية هذا المسار تقتضي صراعا بين طبقات متناقضة بنيويا، لابد أن ينتهي هذا الصراع “حتما” لصالح طرف نقيض ويولد من رحم هذا الصراع وضع تناقضي جديد المهم فيه حالة التغير المطلق وتغير “بنية تحتية” بكل تجلياتها “البنيوية الفوقية” اجتماعيا وأخلاقيا….

هذه الرؤية التي انتظمت نظريا في شكل جزء من فلسفة ذات طابع شمولي، أنهكها التغير الاجتماعي المتتالي الذي أدى فيه الإنسان دورا مركزيا، ففي الوقت الذي طرحت الفلسفة الشمولية منطق التغيير هذا في إطار سيرورة “حتمية” أبدع الفكر اللبرالي النقيض رؤى وآليات ضربت هذه الفلسفة في مقتل وعطلت عجلة حركته، كان من بين تلك الرؤى التي تجلت في صورة آليات تفصيلية، “فلسفة النقابة” التي حولت العلاقة بين الطبقات من اتجاه “الصراع الحتمي” كما رأته الفلسفة الشمولية، إلى حالة “التفاعل والتعاون الحتمي” كما اراده الفكر اللبرالي، فتعطل الميكانزم الجوهري لمبدأ الحتمية وهو ميكانزم الصراع بين الطبقات، ولأن القضية بين المدرستين الفلسفيتين كانت ولا زالت قضية وجود فقد عمدت الفلسفة الشمولية إلى التأقلم مع هذا العنصر الجديد الذي أريد له وقد حقق فعلا إلى حد ما حالة التعطيل لميكانزم الصراع الطبقي، كان المشهد الذي بدا فيه التأقلم هو النفاد إلى “النقابة” والفكر الفلسفي المؤطر لها ومحاولة ضربه في مقتل، فنفث فيه ما اصطلح عليه لاحقا في إطار الرصد “النقابة النقابوية/الفوضوية” التي تحول دورها النظري والعملي من البحث عن المخارج للمآزق والمشاكل العالقة بين مختلف الطبقات إلى تبني مقاربة “لا للحلول” ونحو “مزيد من التأزيم” في أفق تحقيق “الثورة” لتغيير “البنى التحتية” بكل تمظهراتها…

ولأن الهيئات والمؤسسات البينة وكذا الكائنات الهلامية التي تتبنى الفلسفة الشمولية السالفة البيان تعلم أن الإعلان على هذه الأطروحة النظرية قد يفقدها عنصر تفوق هو قدرتها على تحريك الفاعلين من وراء الستار الأمر الذي سيجعل هؤلاء الفاعلين ينتبهون وينفضون حفاظا على رؤاهم الفلسفية الخاصة، فإن هؤلاء استمرؤوا خوض معركتهم الإديولوجية من وراء الستار…

إن مقاربة “النقابة الفوضوية/النقابوية” التي تروم تغيير “البنية التحتية” هي المقاربة التي تحكم إدارة ملف “الطلبة الأساتذة” بوعي من بعضهم وفي غفلة من أغلبهم، بحيث أن الملف حين تكييف مطالبه على المستوى الكلي في إطار ملف “نقابي” يهدف إلى إحقاق حقوق وانتزاعها من “الطبقة النقيض/ الحكومة” وهذا يفرض أن تحكمه آليات “الحوار” التي جوهر نجاح مقصدها هو “تقديم التنازلات” للوصول إلى “الحل” المرضي للطرفين، في إطار الموازنة بين مكاسب وتنازلات كل طرف على حدة، وإذا كان مفهوما أن تبدو المطالب “النقابية” أول الأمر “مرتفعة السقف” فإن غير المفهوم –إطلاقا وفق منطق النقابة- أن يظل التصلب عند السقف المعلن عنه في البداية، وعدم الزحزحة عنه رغم جلسات الحوار المتتالية، بل إن هذا التصلب حين يكون من طرف واحد هو “الطلبة الأساتذة” يمكن أن يبرر حالة الاستفزاز التي تحمل الطرف المحاور على إعلان أن مستوى تنازلاته قد بلغ منتهاه لأن الأمر في هذه الصورة لا يكون مشهدا حواريا بالقدر الذي هو مشهد مزايداتي يتنازل فيه طرف دون غيره، فتكون المحصلة أن المراد ليس هو حل الملف بقدر ما المراد مزيد من تأزيم وضع يظهر جليا أن المراد من ورائه ليس تلبية ملف مطلبي وإنما هو مراد بعيد المدى يصل إلى توهيم الرأي العام بحالة من المظلومية التي يتشكل من وراء التطبيل بها موقف أعم بعدم صلاحية “المخزن/النظام/الحكومة” لتدبير الملف الاجتماعي الحساس وبالتالي تحصيل نتيجة هي وجوب إسقاط الحكومة، ورئيسها الذي يشكل إزعاجا لأطراف معينة.

ولأن الصراعات ذات الأبعاد الإديولوجية المرتفعة التوقعات على مستوى النتائج هي أشبه بخوض معركة افتراس، يتشارك الأقوياء في إدارتها والمشاركة فيها، في الوقت الذي يترقب الانتهازيون نتائجها للقفز عليها والظفر بها في غفلة ممن انخرطوا في تحقيق مغانمها، فإنك تجد الفرقاء المختلفي المشارب الإديولوجية يتحدون على هدف واحد وإن كان كل منهم يضمر لصاحبه الكيدية البعدية حين تضع هذه المعركة الجزئية أوزارها، بحيث تتحد أهداف أصحاب “الثورة” وأصحاب “القومة” في إدارة الملف من طرف خفي لإقناع العالم بتهافت تجربة المدافعة وبجدوائية تجربة المناهضة “للمخزن…” في ذات الوقت الذي ينتظر “الانتهازيون” من بعض المشاركين سياسيا ما ستجود به عليهم هذه المعركة من فتات يلتقطونه على هامش “المعركة الانتخابية” القادمة.

لكن الغريب أن الخاسر الوحيد في هذه المعركة من بين كل المتداخلين فيها هم فئة “الطلبة الأساتذة” إذ لو أنهم خاضوا المعركة بنفس نقابي لحققوا من المكاسب ما وصل إليه سقف الحوار من أرباح انتزعوها من وراء تنازلات الحكومة، وليس أبسطها حق “التوظيف للطلبة جميعا” وفي سقف زمني معقول ومحدد بالتاريخ الدقيق، وفي أفق قريب متسق مع القانون، فقد عرضت الحكومة على “الطلبة الأساتذة” أن يوظفوا جميعا بين شهر شتنبر/يناير 2016/2017م وهو مكسب مهم جدا.

لكنهم يخوضون معركة “إديولوجية” بالنيابة عن أطراف غير ظاهرة في الصورة، ويساهمون في تمكين تلك الأطراف من أكل الثوم بأفواههم، لأن إصرارهم على إسقاط “المرسومين” كما يعلنون هو ما يحول المعركة إلى بعد “فلسفي/سياسي” غير “نقابي” ومن شأن تحويل المعركة إلى هذا البعد السير بها في اتجاه آخر غير اتجاه الحل، بل السير بها في اتجاه سياسة “عض الأصابع” التي لن يعلن انتهاءها سوى صافرة انتهاء اللعبة الانتخابية ليوم 07/أكتوبر/2016م