وجهة نظر

المختار السوسي: الإخوان المسلمون في المعتقل

كنت سابحا في عوالم (معتقل الصحراء) للعلامة محمد المختار السوسي، حيث يحكي ما كان يدور في المعتقل الذي ضم كبار رجالات الحركة الوطنية سنة 1952. إن ما حكاه –والذي يعز المقال عن استعادته كله- ليومئ بحق إلى كون الوطنيين كانوا إخوانا مسلمين بدون اسم أو شعار!

قرأتُ فيما مضى (في السنة الثالثة إعدادي) سيرة العلامة الغيور يوسف القرضاوي “ابن القرية والكُتاب”؛ إذا قلتُ إني ذاكر لما جاء فيها فلن يكون ذلك سوى ومضات من الملحمة البطولية التي سطرها الإخوان في السجن في 1948-1949 في عهد الملك فاروق. نعم، لن أنسى الكلمات الجامعة التي علق بها الدكتور يوسف على المشاهد المنيرة التي شهدها في السجن بمعية كبار رجالات الإخوان وعلمائهم. “حولنا السجن إلى جامعة للعلم وجامع للعبادة ومنتدى لتلاقح الأفكار وناد للرياضة.. وكل ذلك على حساب إدارة السجن”.

أنعم به من سجن كان فيه القيام زينة الليل والفجر موعد الرجال والذكر ملازم الشفاه وصاحب فقه السنة (سيد سابق) أستاذ فترة الصباح والفقيه النبيه (محمد الغزالي) متكلما عن الاستبداد والاستغلال وموقف الإسلام. فقد كانوا يستيقظون قبل الفجر فيركعون للمولى ما شاء لهم أن يركعوا ثم يقبلون بعد صلاة الصبح على الأوراد والذكر والقرآن وبعد ذلك يتوجهون نحو الرياضة (لعلها بقيادة المهدي عاكف: أسنُ قيادات الإخوان والذي كان مرشدا إلى غاية سنة 2010 ودخل السجن في عهد فاروق وفي عهد عبد الناصر وربما مبارك وهو الآن قابع فيه في عهد السيسي، وقد بات على مشارف التسعين فهو من مواليد سنة 1928)، ثم تتكرم عليهم إدارة السجن بالفطور!فيتحلقون حول محاضرات سيد سابق في الفقه ثم تتكرم عليهم إدارة السجن مرة أخرى بوجبة الغداء فيأخذون وقتا للاستراحة والقيلولة ثم ينطلقون إلى محمد الغزالي لمدارسة الإسلام والاستبداد السياسي والأوضاع الاقتصادية.. وهكذا.

إنه الفردوس الأرضي؛ إذا تم الاتفاق على أن ما يحقق سعادة الإنسان في الدنيا أمران: إذا وجد ما يسد رمقه ويسكت لظى الجوع. وإذا فاز بما يروي عطشه العقلي والمعرفي. فالطعام كان بالمجان والمعرفة (الفقهية والفكرية) –رغم إمكان الاختلاف في تقدير محتواها بمقاييس اليوم- كانت تفيض عليهم ليل نهار.

وإذا بي أقرأ ذكريات العلامة محمد المختار السوسي في كتابه (معتقل الصحراء)، لاح لي التشابه الكبير بين ما عاشه الإخوان سنة 1949 في (مصر) وما عاشه الوطنيون سنة 1952 في (تنجداد وأغبالو نكردوس). يقول المختار (ص:144): وقلت في صبيحة وقد أجلتُ عيني فيما نحن فيه من نعم على نعم، حتى لندهش أحيانا من كثرة ما يتوالى علينا من أفانين العيش الرغيد، وتنوع إخوان الصفاء، وما أقل شكر الإنسان، فلا يكاد يستمتع بنعمة حتى يُسرع إليه الملل، فيعتاده الوجوم:

أم معتقل يا قوم أم جنة الخلد متى كانت الأسماء تقلب للضد؟
فأنى تقلبنا نرى ما نرى وقد عرت تخم ثرت بها راحة السعد
دروس وإخوان لطاف ونعمة نقلب منها في أفانين من رغد
نظل ونمسي ثم نصبح ألفة إلى ألفة، لا ركز يصدر عن حقد
أعن خطأ كان العدو مهيئا لنا كل هذا أم عن العمد للكيد

ويتحدث المختار السوسي في موضع آخر لافتا الانتباه إلى مدى التزام الوطنيين بالشعائر الدينية في المعتقل، ويذهب في كلام عجيب إلى أن تشبث الوطنيين بهذا الشكل بأهداب الدين سيدخلهم في غمار المنافسة مع الإخوان المسلمين.

“إن كان كل معتقل من معتقلات المغرب المتوزعة في أرجائه يقوم بشعائر الدين كما يقوم به معتقلنا، وصارت الفكرة الدينية عملية كما هي عليه عندنا؛ فإن المغرب لعلى أبواب جديدة من الانقلاب إلى ما يفوق ما نسمعه عن الإخوان المسلمين.. فقد كنا في المعتقل القديم في صبارة الشتاء، لا تكاد تجد من يتخلف عن الصف، بل يتزاحم على الصف الأول أو يكاد يقتتل عليه، وليس هذا في غير الصبح فقط بل حتى في الصبح حين يتكالب الجو بما يفيض منه من قوارص الصر الشديد، والعجيب أننا كثيرا ما نصلي في الساحة العارية ومع ذلك لا يفلت شبابنا الحي الحضور في الصف”. (ص: 185)

ويذكر العلامة المختار أن عددا منزورا لا يتعدى أربعة أفراد هم الذين كانوا يتخلفون لأعذار مقبولة أو غير مقبولة عن الصلاة. فنظم تحت عنوان “اعمل لدنيا… ولآخرتك…” ووطأ لذلك النظم بما يلي: خاطبتُ بعض الإخوان الذين يحرصون على أن يكونوا أول الحاضرين في وقت الرياضة ولا يحرصون مثل ذلك الحرص على التبكير لصلاة الصبح فقلت (ص:104-105):

يا من يبكر للرياضة هل تبكر للصلاة؟
هذي الحياة، وما تعد إلى الذي بعد الممات؟
أو عاقل من ليس ينظر للذي بعد الممات؟
هاتوا الرياضة والصلاة معا تكونوا من هداة
فإذن تكونوا خير نشء يقتفى في المعضلات

أما عن المحاضرات الملقاة في أوساط المعتقلين فهي تذكرة حقا بما جرى مع الإخوان المسلمين، بل تومئ إلى أن أولئك فاقوا الإخوان فجمعوا إلى جانب الفقه والفكر علم الجبر وعلم الاجتماع وعلوم اللغة.. إن إعادة قراءة تاريخ الحركة الوطنية بشكل مستنير لاستجلاب الدروس المفيدة للأجيال الصاعدة تتجلى هنا. وإذا كانت هناك كلمة تجمع ما قام به هؤلاء الرواد فهي “الجدية”، إنهم كانوا يعملون بجد على مختلف الجبهات والصعد والميادين.

“كثيرا ما أفكر في معتقلنا فأقول: هل الواقع أن هذا معتقل حقيقة فأين آثار الاعتقال، وأين هموم الاعتقال، أنحن وكلنا سابحون في نعم زاخرة، وآلاء باطنة وظاهرة، نستحق في الواقع أن نسمى معتقلين، ثم إلى ناحية القيام بشعائر الدين والاهتبال بها، وإلى المروءة السائدة، وإلى الحياء الذي يسود الوجوه، وإلى اشتغال كل إنسان بخويصة نفسه، حتى أنني لأشهد بأن مسمعي ما ولجت فيه قط عبارة سفه أوما يُستحيا من قوله، فأقول: هذه زاوية من زوايا الصوفية، لو كان فيها شيء من الهدوء، وجهر بالأذكار التي تؤلف من الزوايا، ثم أنظر ناحية أخرى، فأرى دروسا قائمة، ومطالعات دائمة، ومباحث تحرر، وتواريخ تسطر، ومحاضرات تتوالى واستفادات، وإفادات يحرص عليها، يملأ ذلك كل طرفي النهار حتى لا تقع إلا على أستاذ أو تلميذ، أو مطالع، أو منقب بين الكتب عما يعوزه من تحرير مسألة.
أنظر إلى كل هذا فأقول إن هذه مدرسة تؤدي وظيفتها، وينبوع معارف يكرع من مناهلها، ثم إذا تخللت الثنايا، ووقعت على هذا يتخصص في العربية كدروس عليا، وذلك في الفرنسية أو الإنجليزية، أو وقفت إزاء من يتوفرون إزاء لغة الشلحة وأمثالها ومشتقاتها، أو على اللغة الأمازيغية يحررون من عباراتها، ويقايسون ما بينها وبين أختها الشلحة. أو اندفعت إلى مجلس آخر يتقن فيه علم الجبر، وتقويم البلدان، وكيفية تخطيط الكرات الأرضية، وكيف يوازن علم الاجتماع ما بين زيادة الأهالي وبين تموينهم، أو لفت نظري أصحاب العلم الدقيق حول الحشرات والنباتات على اختلاف أنواعها.

إني أنظر إلى كل هذا فأقول إن هذه جامعة عظمى، وإنها لتعطس بين الجامعات بأنف شامخ. ذلك هو معتقلنا، وإن كنت أنا أسميه جنتنا التي لا لغو فيها ولا تأثيم ولا أحزان ولا هموم، فيها إخوان على سرر متقابلين”. (ص:194-195)

إن ما تضمنته شهادة العلامة المختار لمن الأهمية بمكان بخصوص دراسة سمات جيل التحرير. إن إشارته إلى عكوف بعض المعتقلين على اللغة الأمازيغية ولهجة الشلحة للدراسة والمقارنة يحبل بدلالات كثيرة لعل أبرزها نفي التهمة الملصوقة بالحركة الوطنية على أنها جاءت من أجل محاربة الأمازيغية وإماتتها. صحيح أن قراءة التعامل غير العادي مع ظهير 16 ماي 1930 والتأريخ به لنقطة انطلاق العمل الوطني المدني والسياسي يحتاج إلى مزيد من الوقفات النقدية؛ لكن اتهام الحركة الوطنية –كل الحركة- باعتبارها عدوة الأمازيغية أمر ينفيه حيازة بعض الوطنيين لقصب السبق في الاهتمام بمسألة اللغة الأمازيغية والمرادفات التي تغتني بها بل جعلها لغة قائمة في مصاف اللغة الفرنسية والإنجليزية والعربية من خلال تخصيص أوقات لدراستها بنفس القدر الذي تُدرس به اللغات الأخرى.بل كان الوطنيون الكبار (أمثال المهدي ابن بركة..) متعطشون لتعلم الأمازيغية وفعلا فقد “تمزغ” و”تشلح” حسب شهادة المختار السوسي. “تلك من أنباء الدروس في معتقلنا، ولم أتتبع كثيرا الدروس المفردة لأنها كانت تستغرق الجميع؛ عربية أو فرنسية أو إنجليزية أو شلحية، حتى ابن إدريس وابن بركة تشلحا”. (ص:203)

إن هذه الشهادة العفوية تحمل يقينا مفاجآت للعديد من أولئك الذين يفكرون عبر مُسبقات معينة ووفق إطار تفسيري جاهز؛ فأن يتصدى الوطنيون في المعتقل لتعليم نحو الأمازيغية في وقت لم تظهر فيه الحركة الامازيغية المعاصرة بعد ولم يبدأ الحديث عن التدوين ونقل التراث الشفهي إلى الورق أمر يدعو العديد من الفاعلين في الحركة الامازيغية وفي غيرها إلى مراجعة مواقف الحركة الوطنية في القضية الامازيغية بعيون أخرى.

“اقترح علي مصطفى الشرفي الولوع بكل استفادة أن أقرأ معه فنونا من النحو التصريف واللغة والأدب، وأراوده بما أستطيعه من إملاءات وفوائد متفرقة، وكان أيضا مولعا بتعليم المبتدئين؛ فيعلم الشريف مولاي أحمد التبر المبادئ العربية، كما يعلمني الفرنسية، وقد كان بوده أن يأخذ الدروس من كل الفنون عربية وفرنسية وإنجليزية وشلحية، بل شرع في كل واحدة منها متنقلا: فيأخذ النحو في الأمازيغية عن الأستاذ محمد الفاسي ويتذاكر في الإنجليزية مع الأستاذ الحمداوي، كما أن مصطفى يأخذ عن المهدي ابن بركة من علومه التي تخصص فيها”. (ص:201)

إن الذين كانوا مع المختار السوسي وحكى عن عطاءاتهم وتدينهم وجديتهم ووطنيتهم ليسوا فقط من الكهول ومن خريجي التعليم الأصيل في القرويين، وإنما يوجد ضمنهم لفيف من الشباب عانق الثلاثين من أبرزهم رجل نعته العلامة المختار في مواضع كثيرة ب”نابغة” الشباب أو “النشيط” المهدي بن بركة. إن هذه الشهادة ترفع الستار عن أمر أثار جدلا –وهو أمر خاص وشأن فردي على كل حال-: كيف كانت علاقة المهدي بن بركة بالدين؟ وما ثناء المختار السوسي المتكرر على المهدي –وهو الذي ينطلق من مقاييس الدين في الحكم على الناس- سوى شهادة إلى جوار شهادات أخرى تدل على أن خط المهدي لم يكن مخاصما للدين وإنما كان مخاصما للتقاليد البالية والرجعية المميتة. “وكثيرا ما يستوعب بالترجمة إلى العربية، من مقالات شتى من الصحف، أو مما يبلغه من هنا وهناك، فيأتي باللب، فيلقيه علينا بعبارة فصيحة. وقد قلت له مرة أباسطه: إنني أرى فيك لوزارة الخارجية ملامح، فأنت أقدر الناس على أن تلاقي كل واحد بما تريد أن تلاقيه به، وذلك من مزايا الوزارات الخارجية. وأنا أُكبر هذا الشاب، وأرى له مستقبلا، وكم دعوت الله أن لا ينقصه شيء”. (ص:211)

إن الخلاصة التي بالإمكان الخروج بها في هذا السياق؛ إنه واهم من يعتقد أن الإخوان المسلمين جاؤوا مع الحركة الإسلامية المعاصرة للإيحاء بكونهم دخلاء. إن الإخوان المسلمين تمثلوا أحسن تمثيل في سلوك الوطنيين. إن الإخوان المغاربة عاشوا محنة الاعتقال في نفس الزمن الذي عاشها الإخوان المصريين. إن الإخوان المغاربة قرؤوا سيد قطب وأحمد أمين وجرجي زيدان قبل ميلاد إخوان ابن كيران..إذ كانوا يهرعون إلى “عشرات فعشرات من أفذاذ الكتب: مجموعة روايات جرجي زيدان، ومجموعة فجر الإسلام لأحمد أمين، والإسلام في مفترق الطرق لمحمد أسد، ومجموعة مؤلفات سيد قطب مما ألفه حول الإسلام” (ص:208)، ومعلوم أن سيد قطب كان إلى حدود 1952 قد أصدر كتابات رائقة تدور حول التفكير الاجتماعي في الإسلام (العدالة الاجتماعية في الإسلام، الإسلام ومعركة الرأسمالية، السلام العالمي والإسلام..). باختصار، إن الإخوان المغاربة متجذرون في تربة الوطن كما أن إخوان بنبركة (الاتحاديون) متجذرون فيها كما أن إخوان إبراهيم أخياط متجذرون فيها أيضا. ولهذا ليس غريبا أن تكون أصوات جزء من المجتمع العميق من نصيبهم.