وجهة نظر

الحداثة والتراث

لقد سألتني أيها الصديق عن ما إذا كنت تعتنق مبادئ الحداثة تكون لك بالضرورة تلك القطيعة الابستيمية أو لنقل الأيديولوجية من التراث …هل الحداثة هي بالضرورة قطع الصلة بالتراث.

عندما رفعت يوما فيديو أقرأ فيه القرآن احتج علي بعض المراهقين فكريا بقوله : ماجا تش نتا حداثي تقدمي وتقرأ القرآن …فقلت له : وهل الحداثة معناها ألا تقرأ القرآن .؟

لست هنا لأرد على هذا الادعاء ، لأن من يقول بهذا جهله بالتاريخ شديد، بل إن أمثال هؤلاء ينشؤون على أنيميا حادة من المعرفة بحدود المفاهيم، لذا فهم مثل الكيس المنتفخ تأخذه الريح كل مأخذ.

والحقيق أن ما يمنع المراهقين فكريا من النظر في التراث ليس رغبتهم في التجاوز، ذلك أن التجاوز هو مرور ووطء وإلا فما يفعله المراهقون فهو قفز ، والقفز ليس محمودا عند أهل المعارف المحققين … لهذا فما ينفرهم من التراث هو قوة النصوص التي تحتاج من المقبل عليها وجاهة و معرفة شبه شمولية، أو هي معرفة باللغة جامعة وبالثقافة وبأشياء كثيرة هم لا طاقة لهم بها، بل لا وقت لهم للنظر فيها لاشتغالهم بالتفاهات حتى لتجد أغلبهم لا يحسن حتى قراءة الفاتحة يريد مناقشة لغة القرآن.

التراث العربي الإسلامي ليس نصف رغيف محشو بالعسل، التراث الإسلامي لا يمكنك أبدا أن تلوكه لينزل إلى بطنك هنيئا سهلا ثم تبرزه وتقوم لتتبجح وتقول : لقد قضيت وطري من هذا التراث فما وجدت فيه…التراث الإسلامي لو أنفقت مالك ومال أبيك وقضيت ما في عمرك وعمر أبيك ما أحطت به وما تستطيع.

ولهذا تجد الطلبة في جميع الجامعات حتى غير المغربية وفي جميع شعب العلوم الإنسانية والفلسفة حظهم في قراءة التراث وفهمه كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.

لقد جلست البارحة إلى بعض من الذين ابتلاهم الله بالسؤال وضيق الجواب فأحصيت لهم عشرين مصدرا من مصادر التراث وعشرين من كتبة التصانيف، فما كادوا يعرف منها إلا لماما يسيرا ، فقلت لهم : قوموا لا أبا لكم.

وهو السبب نفسه الذي يجعل أغلب المنتسبين اليوم زورا للحداثة لا يكتبون إلا ناذرا، وإن كتبوا كتبوا بلغة دارجة سطحا تافها مخافة أن تبدو سوأتهم …لأن معرفتهم النظرية في الدرجات الدنيا.

من الصعب جدا أن أقدم تصورا للحداثة خارج ما تم تقريره في كثير من الكتابات النقدية الرصينة فحتى العلاقة بين التراث والحداثة كانت فصلا وأصلا لجل الكتابات العربية، لذا فقد قتلت بحثا على حد تعبير أهل الأصول، ولولا سؤالك لي عنها ما تحدثت عنها بالكلية حتى لا أتهم بالاجترار.

فالحداثة نمط من التفكير ظهر بالتوازي مع تحولات جغرافية واجتماعية وتاريخية اتحدا بداية من القرن السادس عشر، لتعطي في النهاية طريقة للنظرة للعالم والأشياء مغايرة وأكثر تفاؤلا وتقدما لما كان في القرون الوسطى، هذه النظرة ستؤدي إلى تحولات أكبر ليبدأ الصراع هكذا بين التفكير بأنماط وآليات أكثر نجاعة، والتي ستعطينا مجتمعا متقدما يتبادل الأدوار والرؤى بين ما هو نظري وواقعي وهكذا استمرت هذه السيرورة إلى اليوم.

أنا فقط أشرت إلى هذه النظرة الموجزة جدا جدا لأن الحديث فيها تم عميما خاصة عند فلاسفة القرن التاسع عشر.

فالحداثة هي تمركز حول الذات واستقلالها في مواجهة الطبيعة .. لكننا عندما ننظر إلى ما ناقشته الحداثة في الغرب سنجد ما هو قابل للتعميم لأنه كوني كلي… ثم نجد أن السجالات الفلسفية في 90 في المائة منها أمثلتها تاريخية أوروبية في حين لا يتم التطرق إلى تاريخ المسلمين إلا ظلاما، وهذا أمر طبيعي لأن الفيلسوف في الغرب ليس له الآليات اللغوية والثقافية لينكب على دراسة تراث المسلمين بكثافة مثل ما تم في تراثهم … فالفيلسوف في الغرب يعطي الأمثلة غالبا بتاريخه وهذا بالتحديد ما جعل كثيرا من الطلبة الدارسين بالعربية والفرنسية يعرفون تراث الغرب أكثر من معرفتهم بدولة بني العباس والمرابطين.

إن كونية الفكر الفلسفي وجدواه لا جدال فيها لكن من الناحية التداولية بالمعنى الطاهوي يصبح وجوبا النظر في التراث لبناء الذات تجنبا للغرابة والاستلاب. فالنظر للتراث بهذا المعنى يصبح واجبا إذا كان حاجته التجاوز، وبه يحافظ الدارس على مسمى التحديث وروحه التقدمية لكن إذا كان الغرض العودة للقديم باعتباره ليس أصلا ولكنه الأصل تفقد الحداثة معناها لنصبح أمام ذات رجعية نكوصية… فالحداثة قطيعة مع التراث النموذج لكنها واجبة لبناء النموذج.