وجهة نظر

قراءة في قلق “بان كي مون”

بعد الحرب العالمية الثانية، أسس الحلفاء بعد انتصارهم، منظمة الأمم المتحدة سنة 1945، و بناءاً على الأعمال الوحشية و الإبادة الجماعية التي حصلت إبان الحرب، أجمع أعضاء المنظمة على أن تعمل الأمم المتحدة ما بوسعها لمنع الإبادة الجماعية و الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية و التطهير العرقي.

هل فعلا حالت المنظمة دون ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية؟ ماهي ردود فعل المنظمة إزاء الحروب البشعة ضد المدنيين و التي ارتكبتها دول دائمة العضوية في الأمم المتحدة؟ و هل كان لها دور عملي في وقف أبشع عمليات التطهير العرقي في العالم؟ أم أن المنظمة متخصصة في تبضيع الدول العربية و الإسلامية و خلق صراعات بينها، مثلما حدث في السودان؟

الخرجة الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة ‘بان كي مون’ تنم عن نية مبيتة لتجزيئ المغرب و ذلك بعد وصفه النزاع حول الصحراء المغربية ب ‘الإحتلال’ و كأنه نزل بأرض فلسطين، ضاربا بذلك عرض الحائط حياد الأمم المتحدة في النزاع، و كان على غفلة من دور المنظمة في إحلال السلام بالعالم بدل إشعال فتيل الصراعات بين الشعب الواحد.

و خير رد من الشعب المغربي على تلك التصريحات المجانبة للحياد، مظاهرة الأحد 13 مارس و التي وصلت حسب وكالة المغرب العربي للأنباء إلى 3 ملايين متظاهر. و المظاهرة أيضا كانت بمثابة رد قوي على نكسات بعثات الدبلوماسيين المغاربة المفاوضين، و الذين لم يستطيعوا تحقيق تقدما ملحوظا في الملف رغم صرف أموال كثيرة لذلك …

لو رجعنا بالتاريخ قليلا إلى الوراء و تمعّنا في الإبادات الجماعية التي ابتليت بها مجموعة من الشعوب ( العراق، فلسطين، الروهينجا…)، هل فعلا تصدت الأمم المتحدة بقيادة أمينها العام الحالي ‘بان كي مون’ لتلك الإبادات الجماعية؟ و هل عاقبة المعتدي أم باركت الجريمة؟

لنبدأ الإجابة عن الأسئلة من العراق، التي لاقت عدوان غاشم من دولتين دائمتي العضوية في الأمم المتحدة (الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا). في 8 نونبر 2002 أصدر مجلس الأمم المتحدة قرار 1441، و تضمنت الفقرة 13 من هذا القرار فيما معناه “أن المجلس قد حذر العراق مبرزاً أنه سيواجه عواقب وخيمة نتيجة استمرار انتهاك التزاماته”، و قد اتهم العراق حينها بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، ليُثبَت بعد تخريب العراق زيف تلك المزاعم، و اعتراف رئيس الوزراء البريطاني السابق ‘توني بلير’ مؤخرا بخطأ غزو العراق. رغم أن الفقرة 13 لم تتضمن بشكل صريح لأية دولة من دول الأعضاء القيام بضرب العراق.

لكن الكونغرس الأمريكي و البرلمان البريطاني منحا للدولتين صلاحية شن الحرب على العراق و اعتُبر ذلك مسألة تخص الأمن القومي للدولتين – الأمن القومي على حساب الشعوب المستضعفة-، بدأ قصف و تخريب العراق في 20 مارس 2003، وفي أكتوبر من نفس السنة أصدر مجلس الأمن قرار يعطي الشرعية للإحتلال الأمريكي للعراق، لينفض هذا القرار الغبار على زيف ما تدعيه الأمم المتحدة من إحلال السلام بين الشعوب و منع الإبادة الجماعية…

لنتجه الآن غربا لعلنا نصادف رد فعل عملي للأمم المتحدة في التصدي للتطهير العرقي و إحلال السلام. في عهد ‘بان كي مون’ حدثت أكبر إبادة للشعب الفلسطيني منذ الإحتلال الصهيوني 1948. في سنة 2008 وجّه الصهاينة أسراب من الطائرات لتقصف المدنيين العزّل في غزّة كتعبير صريح لما يسمى التطهير العرقي، و استعملت في الحرب أسلحة محرمة دولياً، و قد خلّف القصف الجوي و البحري و البري قرابة 1400 شهيد فلسطيني و عدد الجرحى أكثر من 5500. لكن رد الأمم المتحدة على لسان أمينها العام كان غريباً إن لم نقل مضحكاً حيث قال :’أعلن عن بالغ قلقي إزاء أعمال العنف و حمام الدم في غزة’.

و في سنة 2014، هجوم آخر على غزة من طرف الصهاينة و يعتبر أكبر مجزرة في حق الفلسطينيين منذ الإحتلال الصهيوني 1948، و قد خلف الهجوم اكثر من 2000 قتيل و 10870 جريح، و كان من بين القتلى 11 موظف في الأمم المتحدة، لكن رد هذه الأخيرة هو ‘جانبي الصراع ارتكبا جرائم حرب’، و ما زاد الطين بلة هو قول ‘بان كي مون’ :”ّإسرائيل لديها قلق شرعي، لكني أشعر أيضا بالقلق من تصاعد عدد القتلى بين الفلسطينيين”.

إبداء القلق هو دور الحقيقي للأمم المتحدة في معالجة قضايا التطهير العرقي. كان الأحرى ب ‘بان كي مون’ أن يصف الصراع في فلسطين بالإحتلال و أن يحشد كل القوى لإرجاع الأرض المسلوبة عنوة إلى أهلها، مع العلم أنه توجد الأدلة القاطعة بأن الصهاينة رُحّلوا قصرا من بقاع العالم لتُمكّن لهم بريطانيا في فلسطين، و ‘بان كي مون’ يعلم جيداً أن فلسطين لم تكن أرض بلا شعب حتى تستقبل شعب بلا أرض…

و جهتنا الآن إلى أكبر إبادة و تطهير عرقي و طائفي يشهده العالم، و هو التطهير في حق شعب الروهينجا المسلم. الروهينجا جماعة مسلمة في ولاية أراكان غرب بورما أو ميانمار، و تشكل 4 في المئة من سكان ميانمار. في 3 يونيو 2012 قتل الجيش البورمي 11 مسلما من الروهينجا بعد إنزالهم من الحافلات بدون سبب، و قامت احتجاجات في إقليم أركان، فقمعت من طرف الجيش و قُتل حينها ما يزيد عن 50 مسلما من الروهينجا و أُحرقت الآلاف من المنازل. و قعت في نفس السنة أحداث عنف طائفية قُتل خلالها نحو 20 مسلما، و قد تواطأ الجيش البورمي في تجريد الروهينجا من الأسلحة البدائية، و كان يقف موقف المحايد تارة و يشارك في القتل تارة أخرى. في خضم هذا التطهير العرقي، فرّ العديد من الروهينجا و هم يعيشون في مخيمات للاجئين بنغلادش المجاورة و عدة مناطق داخل تايلاند على الحدود مع ميانمار.

أما بالنسبة لرد فعل الأمم المتحدة فهي دائما تستنكر و تعبر عن قلقها، و أعتَبرت الروهينجا أكثر الأقليات اظطهادا في العالم، ثم طوي السجل.
العالم بأسره يشاهد كيف يُقتل سكان الروهينجا و يُحرقون أحياء، لكن الأمين العام للأمم المتحدة لم يذهب لزيارة الروهينجا التي تشكل 4 في المئة من ميانمار، و يصدر قرار عملي لمعاقبة المجرمين، لكنه بالمقابل قال بأن المغرب يحتل الصحراء، و التي عدد سكانها حسب إحصائيات 2014 (جهة العيون الساقية الحمراء-جهة الداخلة وادي الذهب) يشكلون 1.5 في المئة من سكان المغرب و يستفيدون بامتيازات عديدة خُصّت بها عن باقي الجهات، و أُحدثت في تلك المناطق مشاريع تنموية كبرى، لكن ‘بان كي مون’ أغمض عينيه عن كل هذا، ليعلن عن تناقض صريح بين ميثاق الأمم المتحدة و ردود أفعالها.

نحن كشعب مغربي يجب أن نتحلى باليقضة من مشروع تجزيئ و تبضيع الدول العربية عامة و المغرب خاصة، و يجب أن نعلم جيدا، أن هذه التفرقة و الصراعات التي بُثّت كجرثوم في الجسم العربي لا تخدم مصالحنا، بل تخدم الغرب الذي لن يجد صعوبة في الإنقضاض على أي دولة تعارض مصالحه. و خير شاهد، ما يقع من العدوان الغربي على مجموعة من الدول التي عزلت نفسها عن باقي الدول الأشقاء بسبب صراعات ضيقة الأفق، اختلقها الإستعمار الجائر في وقت من الزمن و يستفيد منها حالياً..