وجهة نظر

ما الذي يزعج نقابات اليوم ؟

على سبيل التقديم:

لا شك أن هناك أمرا ما يزعج اليوم نقابات مغربية ، أمرا يتجاوز حد المطالب العادية ، لم تعهده البلاد على امتداد ستين سنة الأخيرة ، يدفعها إلى التصعيد بهذا الشكل المثير لكثير من الاستغراب :

– تنظيم إضرابين عامين في أقل من سنتين: الأول في 29اكتوبر 2014 ، والثاني في 24 فبراير 2016

– مقاطعة احتفالات فاتح ماي 2015

– تنظيم اضراب وطني من طرف كل نقابة على حدة في 10دجنبر2016

بما يغري بطرح أسئلة مشروعة لعل أبرزها: ما الذي يزعج هذه النقابات اليوم ؟

نقابات تحت الشمس :

في مذكرتها المرفوعة إلى رئيس الحكومة بتاريخ 11 فبراير 2014 بدت ثلاث مركزيات نقابية جد منزعجة من رهان الحكومة الحالية على إصدار قانون تنظيمي للنقابات أكثر من انزعاجها بقانون مدونة التعاضد أو حتى قانون الإضراب ، إذ عمدت إلى تكرار لفظ ” سحب ” مرتين في نص مذكرتها متوجهة بالخطاب إلى رئيس الحكومة :

الأولى سحب بإحلال ويتعلق ب : ” سحب مشروع مدونة التعاضد ، وعرضه على المفاوضات الجماعية من أجل إصلاح و دمقرطة نظام التعاضد ، ودعمه من أجل تطويره وتوسيعه سواء بالقطاع العام أو القطاع الخاص .”

الثانية سحب بدون إحلال ويتعلق ب: ” سحب مشروع القانون التنظيمي المتعلق بمشروع قانون النقابات المهنية الذي يهدف إلى التدخل في الشؤون النقابية الداخلية، وتقليص مجال الممارسين للعمل النقابي. ”

أما فيما يخص قانون الإضراب فقد نددت ب: ” المحاولات الملتوية للتشريع في ميادين تهم بالدرجة الأولى الحركة النقابية: نموذج القانون التكبيلي لممارسة حق الإضراب .. ” ودعت من تم إلى ” التراجع عن قرار الاقتطاع من أجور المضربين في قطاعات الوظيفة العمومية والجماعات المحلية ، دون سند قانوني أو دستوري .”

وان كانت العبارة الأخيرة تضمر قناعة راسخة لدى هذه النقابات باستعجالية إصدار قانون ينظم الإضراب يحتكم

إليه كسند مرجعي في حسم المنازعات . فإننا نستغرب رهانها الفريد على خيار ال”سحب” علما بأنها تحظى بتمثيل في البرلمان كهيئة تشريعية، وقدمت ملتمسا لعاهل البلاد لأجل توسيع هذه التمثيلية حظي بموافقته وتم العمل به بدءا من انتخابات مجلس المستشارين للسنة الماضية. مما يطرح اكثر من استفهام عن توجس هذه النقابات بل انزعاجها من عزم الحكومة إصدار قانوني تنظيمي للنقابات لا من تلقاء ذاتها ولكن تفعيلا لوثيقة دستور 2011 التي جاء نتيجة إجماع وطني توج مطالب وتوقعات شعبية..

النقابات وكابوس تكرار “موقعة الأحزاب” :

ظلت الأحزاب السياسية المغربية في منطق ظهير الحريات العامة لسنة 1958 في فصوله من 15 إلى 20 مجرد جمعيات ذات صبغة سياسية. قبل أن تتم المصادقة على القانون 36.04 المتعلق بالأحزاب السياسية الصادر في 14 فبراير 2006 الذي دخل البرلمان لا باقتراح من الأحزاب ولكن بمبادرة من وزارة الداخلية ، قبل إضافة تعديلات وتتميمات عليه ليخرج في صيغة القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية الصادر في 12 أكتوبر 2011 والذي أقر مجموعة من الأمور من أهمها :

من الناحية التنظيمية ، منع الانتماء المتعدد لأكثر من حزب واحد : “- لا يجوز لأي شخص الانخراط في أكثر من حزب سياسي في آن واحد” ( المادة 21)

منع الترحال السياسي : “- يجرد كل منتخب ممثل في احد مجلسي البرلمان أو في مجالس الجماعات أو الغرف المهنية من عضويته في هذه المجالس في حال تخليه عن انتمائه لحزب سياسي ” ( م 20 )

التدبير الديمقراطي للحزب: “- يجب أن ينظم كل حزب سياسي ويسير وفق مبادئ ديمقراطية (..) ” ( م 25 )

الانعقاد المنتظم للمؤتمرات : “- يتعين على كل حزب أن يعقد مؤتمره الوطني على الأقل مرة كل أربع سنوات ، وفي حالة عدم عقده خلال هذه المدة يفقد حقه في الاستفادة من التمويل العمومي ” ( م 49 )

إقرار نسبة الثلث للنساء ونسبة محددة للشباب في مواقع القرار داخل الأحزاب : “– يسعى كل حزب سياسي لبلوغ نسبة الثلث لفائدة النساء داخل أجهزته المسيرة وطنيا و جهويا ، في أفق التحقيق التدريجي لمبدأ المناصفة بين النساء والرجال . كما يتعين على كل حزب سياسي أن يحدد في نظامه الأساسي نسبة الشباب الواجب إشراكهم في الأجهزة المسيرة له. ” ( م 26 )

اعتماد مسطرة الترشيح ومنح التزكية للمرشحين للعمليات الانتخابية : ” – يجب على كل حزب اعتماد مبادئ الديمقراطية والشفافية في طريقة ومسطرة اختيار مرشحيه .” ( م 28 ) “- ويجب أن يتضمن النظام الأساسي للحزب: – طريقة ومسطرة تزكية مرشحي الحزب لمختلف العمليات الانتخابية والأجهزة المكلفة بذلك .” ( م 29 )

ضرب منطق الزعامات التاريخية :”- يجب أن يتضمن النظام الأساسي للحزب مجموعة من البيانات ومنها :- مدة الانتداب الخاصة بالمسؤوليات داخل أجهزة الحزب، وعدد الانتدابات التي لا يجوز تجاوزها ” ( م 29 )

هندسة البيت الداخلي للأحزاب بإقرار لجن محددة: “- ويجب أن ينص النظام الأساسي للخصوص على اللجان التالية: اللجنة المكلفة بمراقبة مالية الحزب – اللجنة المكلفة بالتحكيم – لجنة المناصفة وتكافؤ الفرص- لجنة الترشيحات – اللجنة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج. ” ( م 29 )

أما بخصوص مراقبة مالية الأحزاب السياسية فقد خصها المشرع لوحدها بإثنتا عشر مادة من هذا القانون التنظيمي أهمها :”- تحصر الأحزاب حساباتها سنويا، ويشهد بصحتها خبير محاسب مقيد في جدول هيئة الخبراء المحاسبين ” ( م 42) “- وتوجه الأحزاب السياسية للمجلس الأعلى للحسابات في 31 مارس من كل سنة على ابعد تقدير جردا مرفقا بمستندات إثبات صرف النفقات المنجزة برسم السنة المالية المنصرمة و بجميع الوثائق المتعلقة بالحسابات ..” ( م 44 ) بحكم أن المجلس الأعلى للحسابات هو من يتولى تدقيق حسابات الأحزاب السياسية ونفقات الدعم بحكم الدستور.

اعتبار سوء تدبير الدعم المالي الممنوح للاحزاب بمثابة اختلاس للمال العام : “- يعد كل استخدام كلي أو جزئي للتمويل العمومي الممنوح من طرف الدولة لأغراض غير تلك التي منح من اجلها اختلاسا للمال العام يعاقب عليه بهذه الصفة طبقا للقانون” ( م 47 ) ترتيب جزاءات تصل إلى حدود خمس سنوات سجنا وغرامات مالية تزيد عن عشرة الاف درهم لمن خالف بعضا من هذه المواد.

وعليه بدت من خلال هذه الخطوة رغبة أكيدة من الدولة في إقرار نوع من الديمقراطية الداخلية والحكامة على هيئات ظلت عصية على التطويع من الداخل، أحزاب كانت تزعجها دوما عبر مطالبتها الملحة باحترام الدستور وبضرورة إقرار الديمقراطية والشفافية والحكامة ونزاهة الانتخابات وعدم التضييق على الحريات العامة ومحاربة الفساد واحترام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان..

واليوم تجد النقابات نفسها في مواجهة نفس القدر ونفس التحدي الذي واجهته الأحزاب السياسية قبلها ، خاصة إذا ما استحضرنا ما عانته النقابات الخمس الأكثر تمثيلية في الآونة الأخيرة من أزمات تنظيمية داخلية خطيرة ، لم يكن المخرج المر منها في معظم الحالات سوى اللجوء إلى الانشقاق وتأسيس نقابات جديدة . مما يجعل الجسم التنظيمي للنقابات اليوم جد مترهل ، غير قادر على تقبل ضربة إصدار قانون تنظيمي يلزمها بملاءمة قوانينها الداخلية معه ، ويدفع باتجاه الاستحقاقات التنظيمية الداخلية المنتظمة في مواعيد دورية ،ويشدد الحكامة على ماليتها من قبل مؤسسات الرقابة الوطنية ممثلة في المجلس الأعلى للحسابات ، خاصة وأن نقابات وزعماءها استفادوا كثيرا من البقاء في الظل في وقت كانت فيه الأحزاب السياسية تتلظى بنار الواجهة ، ومن المؤشرات الدالة على ذلك تأخر الأمراض التنظيمية الداخلية ردحا من الزمن بقيت النقابات بعيدة عن الانشقاقات عكس الأحزاب التي عرفت انشقاقات كثيرة منذ عصر الاستقلال ..

التشريع بنكهة الانتخابات: جدل الجشع والرهبة

هكذا إذن يتضح لنا جليا الدافع الحقيقي وراء تصعيد نقابات في السنة الأخيرة لاحتجاجاتها مع توسيع تشكيلتها لتسع نقابة رابعة، فهي تعي بالدراية والتجربة أن أي حكومة في سنتها الأخيرة تكون أكثر قابلية للرضوخ لمطالبها ولم لا أن تنتزع منها اتفاقا في اللحظات الأخيرة من عمرها يكون بالنسبة للنقابات مكسبا نضاليا استثنائيا تضفر فيه ب”قانون للنقابات” على المقاس ، ويشكل في الوقت نفسه بالنسبة للحكومة مكسبا انتخابيا مهما. ويرتب في الحين ذاته على الحكومة الموالية التي ستنتخب في 2016 التزامات وتكاليف مالية لا قبل لها بتقريرها. ولعل في اتفاق 26 أبريل خير مثال على هذه الممارسة النمطية ، لكن لم يا ترى تصر الحكومة في المقابل على التباطؤ في انجاز مشاريع القوانين التنظيمية المزعجة وعرضها على الهيئة التشريعية قصد تعديلها والتصويت عليها ومن تم إخراجها إلى حيز الوجود؟

يبدو أن الحكومة قد أراحت نفسها إلى حد ما من عبء تكرار الإجابة عن سؤال كان سيتكرر طرحه كثيرا بإبداعها فكرة “المخطط التشريعي “، إلا أن ذلك لن يمنع من كون التشريع سيرتهن فيما تبقى من الولاية الحكومية الحالية بعدة هواجس أهمها : استحضار موازين القوى – السرعة في الانجاز تحت ضغط نهاية مدة الولاية الحكومية الحالية– أجواء الحملات الانتخابية التي لن تخلو من مزايدات – تلبية أفق توقع المناضلين أو الفئات المرتبطة مباشرة بتلك القوانين التنظيمية .

إن التشريع في هذه المجالات بدا مثيرا للرهبة لدى الحكومة في سنواتها الأولى ، في ذات الآن و بنفس الحدة التي بدا فيها مغريا لطموح مناضلين مرتبطين بشكل مباشر بهذه المجالات إلى مستوى بلغ حد الشره والجشع ، مما يفيد أن أي رهان للحكومة الحالية على التسريع بإخراج أي من هذه القوانين منذ سنتها الثالثة أو الرابعة أمر ما كان ليخدم مصالحها ، خاصة وأن بعض هذه القوانين التنظيمية مرتبطة بمصالح فئات قد تتحول – في حال إخراج أي من هذه القوانين – إلى قوى احتجاج وضغط أو قد تنزع إلى خيارات عدمية كما حصل بالنسبة للموقف السابق لثلاث مركزيات نقابية من قانون النقابات ، أمر آخر لا ينبغي أن يعزب عن أذهاننا وهو أن الحكومة الحالية ملزمة بحكم وثيقة دستور 2011 بإخراج القوانين التنظيمية ومؤسسات دستورية ، وغير معنية بتحمل تكاليف سنوات مرحلة تجريب الصلاحية للتحقق من مدى جودتها ونجاعتها ، فمرور سنتين فقط على اعتماد أي قانون تنظيمي كاف للكشف عن عيوبه ومثالبه ، وهو ما سيدفع نقابات وأحزاب وجمعيات من المجتمع المدني للمطالبة بمراجعته وتعديله قبل نهاية الولاية الحكومية .إضافة إلى كون بعض القوانين متعلق بإنشاء مؤسسات ( بما يستتبع ذلك من تحمل لتكاليف مادية خاصة بالتجهيز والتسيير …) وأي قانون أصبح ساري المفعول يبقى ناقصا مفتوحا قابلا للتعديل إلى أن تنتهي الولاية الحالية ، أي قابلا للاحتجاج عليه ورفضه وطلب سحبه وما إلى ذلك من أشكال الشونطاج والابتزاز ، ولن يسلم من المزايدات الانتخابوية مما قد يضيع معه جهد الحكومة ومصداقيتها وتآلف أغلبيتها.

إن تأجيل التداول والتشريع بصدد القوانين التنظيمية إلى لحظة الزمن الانتخابي يبدو من وجهة نظري أمرا لا يخلو من حكمة وروية لأنه سيتحول حينها إلى ورقة انتخابية ستراهن عليها كل الأطراف ، ولن يخلو نقاشها من تدافع ايجابي من الطرفين معا ضد بعضهما البعض : سترفضها المعارضة البرلمانية في الوقت الذي ستراهن الحكومة على التزام قدر معين من المرونة خاصة وان الأمر بتعلق فقط بتمرين نظري جوهره مهارة الصياغة وإعادة الصياغة كتابة دون أن تترتب عنه أية التزامات مالية ما دامت آخر ميزانية لها قد دخلت حيز التفعيل منذ نشرها في الجريدة الرسمية آخر ديسمبر 2015 .

بمثابة خاتمة:

في الوقت الذي عملت فيه الأحزاب السياسية من خلال حضورها الفاعل على مراجعة وتعديل قانون الأحزاب والقوانين المنظمة للانتخابات ، بما مكن من تقليص مجال مشاركة المرشحين اللامنتمين في الانتخابات، وحد من حالات الانتماء التنظيمي المتعدد للمنخرط الواحد في أكثر من حزب واحد ، يبدو الوضع الذي توجد عليه النقابات اليوم أكثر مدعاة للشفقة ، في وقت تحول فيه اللامنتمون إلى قوة تمثيلية تضاهي قوة أكبر تلك النقابات واعتاها ، مستفيدين في ذلك من فراغ تشريعي مهول يطبع تنظيم مجال الممارسة النقابية ، تأكد ذلك من خلال تحقيقهم اكتساحا في انتخابات ممثلي الموظفين باللجان الإدارية متساوية الأعضاء ل 2015 بلغ 17399 مندوبا بنسبة % 49,79 متقدمين على حصة اول نقابة حصلت على 6175 مندوبا بنسبة % 17,67 في الوقت الذي لم تتجاوز فيه كل واحدة من النقابات الاخرى الاكثر تمثيلية نسبة % 9 ، مما يجعلها اليوم مطالبة ب”تحرير” مجال الممارسة النقابية وإعادة الاعتبار لموقع “النقابة الأكثر تمثيلية”. و مدعوة لتفعيل قوتها الاقتراحية بتقديم مشاريع قوانين تنظيمية تخص الإضراب والنقابات.

إنني أستغرب كيف أمكن لنقابات أن تطالب في مذكرة مكتوبة علنية بسحب قانون النقابات وتصعد من احتجاجاتها وتنوع ، وهي التي حضرت في كل اجتماعات “الآلية السياسية ” التي باشرت اجتماعاتها بالموازاة مع أشغال لجنة مراجعة دستور2011، بل صوتت عليه بنعم . وتخرج اليوم مطالبة بسحب القانون التنظيمي للنقابات لا لمراجعته والتوافق عليه ولكن لكونه ” يهدف إلى التدخل في الشؤون النقابية الداخلية، وتقليص مجال الممارسين للعمل النقابي.”على حد تعبيرها ، وهي مواقف تحتاج الى كثير من الوضوح والمسؤولية.