وجهة نظر

إشكالية الانتقال الديمقراطي للأحزاب السياسية المغربية

شهد العالم وخصوصا بأوروبا الشرقية، وبأمريكا اللاتينية، خلال القرن العشرين موجات أو ظاهرة التحول الديمقراطي، أي التحول من الأنظمة الشمولية، المغلقة، الى الأنظمة الديمقراطية، وقد أطلق عليها الكاتب صامويل هانتنجتون بالموجة الثالثة لتحول الديمقراطي، في كتابه “الموجة الثالثة التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين” وسماها بالموجة الثالثة، باعتبار ان العالم شهد موجة الأولى للتحول الديمقراطي وذلك في أعقاب الثورة الأمريكية سنة 1776، ثم الموجة الثانية كانت في اعقاب الحرب العالمية الثانية .

بعد ذلك تواترت الكتابات وتحدثت بإسهاب عن الانتقال والتحول الديمقراطي، وأسهبت في سرد مختلف تجارب عملية الانتقال من الأنظمة التسلطية الأتوقراطية والاستبدادية، الى الأنظمة الديمقراطية. وتزايد الحديث عن ذلك ما بعد الثورات العربية، وعن ضرورة الانتقال الديمقراطي والقطع مع دابر الحكم الفرداني.

المغرب لم يغب عنه شعار الانتقال الديمقراطي، بل كان حاضرا بقوة في جل الكتابات، وازداد منسوبه في غمرة أحداث الربيع العربي، وخصوصا ما بعد إقرار الدستور الجديد سنة 2011. ونادت به جل مكونات المجتمع المغربي، وأكدت على ضرورة ترسيخ القواعد الديمقراطية، و بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، وحتمية الانتقال الديمقراطي، وطبعا كانت الأحزاب السياسية كجزء ممن طالبوا بتحقيق هذا الشعار .

لكن هذه الأحزاب التي تأسست حسب محمد ضريف، على الشرعية والنزعة الوطنية، وليس على الشرعية والنزعة الديمقراطية، فالحزب السياسي المغربي نشأ محكوما بنزعة «أحادية»، فهو لا يستحضر الديمقراطية، سواء في علاقته بالآخر المتمثل في التيارات السياسية الأخرى أو في علاقة قياداته بقواعده. وانطلاقا من هذه النزعة، تولدت خاصيتان أصبحتا ملازمتين للحزب السياسي المغربي:
تتجلى الخاصية الأولى في تضايقه من وجود أحزاب سياسية منافسة وسعيه المستمر إلى تجريدها من أي مشروعية .
تتجسد الخاصية الثانية في تغييبه للديمقراطية الداخلية، مما أفضى إلى تنامي ظاهرة الانشقاقات.

وهذا الأمر استمر حتى ما بعد مغرب الاستقلال، بحيث استمرت الأحزاب السياسية، تشتغل بنفس المنطق. ولم تسأل الأحزاب السياسية وخصوصا ما بعد الدستور 2011 الذي جاء في سياق جديد، وهي تنادي بالديمقراطية وشد الرحال اليها، هل هي ذاتها حققت هذا الانتقال الديمقراطي داخليا؟

إن العلاقة بين الديمقراطية والحزب السياسي علاقة متميزة، تطبعها التفاعلية والحتمية. ومن تم ، لا يمكن للديمقراطية أن تترسخ كمنظومة شمولية في حالة غيابها أو ضعفها على مستوى المنظومة الحزبية. وبالتالي، فإن إصلاح ودمقرطة هذه الأخيرة يعتبر مدخلا أساسيا ومحوريا في مقاربة دمقرطة هياكل ومؤسسات الدولة وبنيات المجتمع، ومن ثم في إنجاز أي مشروع نهضوي طموح مثل الانتقال الديمقراطي. وهذا ما يحتم علينا طرح سؤال الانتقال الديمقراطي داخل الاحزاب السياسية؟ والى أي مدى عملت الأحزاب السياسية على دمقرطة بنيتها وحققت عملية الانتقال الديمقراطية ؟

إن دراسة الأحزاب السياسية المغربية ومسار اشتغالها يشي بأنها تعرف نوعا من اشكالية وأزمة انتقال ديمقراطي ، وهذا يتمظهر ويتجلى من خلال النقاط التالية:

أولا: غياب التداول على الزعامة.

اذا كانت الأحزاب السياسية دائما من خلال خطاباتها تنادي بضرورة التداول والتناوب على السلطة، وعدم احتكارها من لدن فاعل سياسي واحد. فهل ذاتها حققت ذلك؟

جزء كبير من الانتقادات الموجهة إلى الأحزاب المغربية في الماضي والحاضر، يركز على الزعامة السياسية، لدرجة يختزل معها الحزب ومدى فعاليته في الزعامة الحزبية. وهو أمر طبيعي إلى حد كبير، لكون زعيم الحزب يعبر عن هذا الأخير، وعن هياكله الداخلية وكيفية اشتغالها؛ فمن السهولة بمكان نقد الحزب اعتمادا على ملاحظة استمرار الزعيم في قيادته لمدة طويلة، وغياب التداول وتبادل المواقع، والموالاة التامة للزعيم، وتحجيم أي انتقاد لخطابه وقراراته، وإبعاد المنتقدين الرافضين للخضوع .

إننا بالرجوع إلى مجموعة من الأحزاب، نجد أن هناك احتكار للرياسة، فحزب الاستقلال مثلا منذ تأسيسه لم يتربع على كرسي الأمين العام سوى أربعة رجال: علال الفاسي، وامحمد بوستة، وعباس الفاسي، وأخيرا حميد شباط. كذلك فإن حزب الحركة الشعبية مذ تأسس لم تعرف القيادة سوى رجلان المحجوبي أحرضان، وامحند لعنصر. كذلك حزب التقدم الاشتراكية وريث الحزب الشيوعي لم يتناوب على الأمانة العامة للحزب سوى على يعته، ومولاي إسماعيل العلوي، ونبيل بنعبد الله… مع الإشارة عن الأحزاب السياسية وخصوصا الأحزاب العريقة تعود نشأتها إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.

إذا كان من مقتضيات الديمقراطية التجديد في البنيات و الأفكار، وتداول السلطة داخل الحزب نفسه، فان الحزب يجد نفسه ممزقا بين متطلبات الديمقراطية، وهي متطلبات عقلانية، وبين نوع من الخلود والتشبث بالزعامة مدى الحياة. لكن هذه الأحروجة لا يمكن أن يحلها إلا الموت، لأنه ينزل على الجميع كقدر لا مرد له. وهكذا يبدو أن الموت هو الكائن الديمقراطي الوحيد في منطقتنا العربية، وذلك بمعنيين أولهما انه أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وثانيها أنه الحل الديمقراطي الوحيد لإمكان تجدد الديمقراطية الحزبية.
ان هناك نوع من الاستئساد بالزعامة والرياسة، واحتكارها من لدن قادة عمروا طويلا وشاخوا في كرسي الزعامة .

ان الانتقال الديمقراطي والتداول على السلطة كمعطى ومؤشر على بداية الإنتقال، يجب ان يتجسد على مستوى الأحزاب السياسية، لكن من أكلح الطامات أن ذلك غاب عنها بالرغم من الإصلاحات الداخلية التي انخرطت فيها العديد من الأحزاب المغربية في السنوات الأخيرة، وتبنيها لعدد من الآليات الديمقراطية الداخلية، تسمح بتبادل المواقع، فإن زعامة الحزب مازالت خاضعة للقانون الحديدي للأوليغارشية، حيث القلة هي المتحكمة في مسار تعيين أو انتخاب رئيس الحزب؛ عملية تخضع لكثير من الحسابات العائلية، أو الفئوية، أو المصلحية. فمسار اختيار الزعيم، إما ينسج خارج هياكل الحزب من قبل دوائر مقربة من الحكم، أو متحكم فيه من قبل شيوخ الحزب، حيث يحتاج الزعيم الجديد إلى مباركة الزعماء السابقين، أي إلى مشروعية مستمدة من الماضي، أو مؤثر فيه بتجييش وإنزال الأنصار، أو التحكم الزبوني في الهياكل التنظيمية للحزب.

ثانيا: انحصار النخب.

إن من بين أساسيات ومسلمات الممارسة الديمقراطية الحقة هي قوامة دوران النخبة وتجديدها من أجل توسيع دائرة المشاركة بين مختلف فئات المجتمع، وضمان نوع من المساواة في الولوج الى مختلف المناصب والوظائف على قدر سموها وكبرها، مع اشتراطات الكفاءة العلمية والمعرفة الواسعة بشؤون التدبير والتسيير، وحتى نيل حظوة التموقع في منافذ الاستشارة وتقديم النصح بمستواه التقني والعلمي وعلى مختلف مستويات صناعة القرار من الهرم إلى الاعلى في سلم ممارسة السلطة، وفي شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن الأحزاب السياسية تعرف غياب تكوين نخبة سياسية واسعة تتأهل وتتجدد باستمرار، تتحمل المسؤولية لمدة محدودة كعبئ مكلف وبالتالي مؤقت كمرحلة لازمة ضمن تجربة أوسع وأغنى فيستطيع المرء أن يقول: هناك حياة قبل وبعد السياسة. ان هناك نوع من التبادل المكوكي لنفس الوجوه، فهي تروح وتغدو مابين مقعد في البرلمان، الى حمل حقيبة وزارية أو الجلوس على كرسي جماعة ترابية.

إنها نفس الأسماء التي عهدناها وألفناها، تغيرت معها تضاريس السياسة والسلطة والمسؤوليات وهي لم تتغير باقية على عهدها وماضية في مسعاها ومسلكها دون كلل وملل، ولم تتغير معها أيضا تضاريس وجوهها، فلا يكاد المرء يسمع ولادة أي مولود مؤسساتي سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو في مدارج العمل الاداري ،وتحت أي شكل هيكلي وتنظيمي إلا وتتردد نفس الأسماء.

ثالثا: الأعيان بديلا عن المناضلين.

لقد عملت الأحزاب السياسية على استقطاب ما يصطلح عليهم بالأعيان، ودعوتهم للترشح باسم الحزب وحمل ألوانه وشعاراته، فقد ارتفع الطلب السياسي على نماذج الأعيان، التي تجيد العمل ب إستراتيجية القرب، وتتمكن بالتالي من حسم النتيجة لصالحها. فليست هي الأحزاب التي توصف بالإدارية، هي التي اختصت بطلب خدمات الأعيان، بل حتى الأحزاب السياسية التي تطلق على نفسها “تقدمية” تنافست بدورها على استقطابهم ومنحهم مواقع متقدمة في الهرمية الحزبية، فالكل بات منشغلا بالبحث عن الأعيان القادرين على تغطية نفقات الانتخابات، والذين يتوفرون على رصيد رمزي يمكن أن يستثمر في العملية الانتخابية ويحقق التفوق لصالح أحزاب تفتقد إلى أداء القرب والتجذر الاجتماعي.

إن الأحزاب السياسية عرفت حضور الأعيان، واستقطابا متواترا وخصوصا في الزمن الانتخابي أكثر من حضور المناضلين ، وإقصاء هذا الأخير، لعدم تملكه تلك الرساميل التي يمتلكه العين، والتي تمكنه من حسم النتيجة لصالحه ولصالح الحزب. فالأحزاب السياسية كان لديها نوعا من الانهجاس بالعملية الانتخابية وهذا الانهجاس والهوس كان دائما حاضرا لديها، فهي تعي جيدا أن المناضل الحزبي لن يقدر بمخزونه الثقافي والنضالي أن يجاري الأعيان الذين يملكون ذخيرة قوية تكسبهم رهان الانتخاب. فالمناضل الحزبي اقتصر دوره على تأثيث المشهد الحزبي، والاستعانة به في المحافل العلمية والثقافية التي تقتضي أن يظهر المناضل ويخبو العين.

إن حزب الأصالة و المعاصرة مثلا التي تشكل في بدايته من شخصيات يسارية وأسماء أثبتت جدارتها في إدارة بعض الملفات التقنية باقتدار وألمعية، وأخرى قادت انتفاضات في أحزابها من أجل الإصلاح و العصرنة ولها امتدادات وتيارات في أحزابها. بالإضافة إلى شخصيات سياسية لها قدرة تواصلية وتستقطب إعجاب نخب المجتمع، وترمز للجيل الجديد. لم يستطيع الاكتفاء بهذه الفئات كمادة أساسية مكونة للحزب خصوصا بعض دخولها مضمار المنافسة الانتخابية وفشلها. ومن ثمة انفتح الحزب انفتاحا مثيرا على الأعيان الذي تمرسوا في ساحة الصراع الانتخابي واكتسبوا مؤهلات عالية في تقنيات جلب الأصوات وبنوا شبكات زبناء فعالة.

إن استعاضة المناضل بالعين من لدن الأحزاب السياسية، شكل نوعا من النكوص في الحياة السياسية عموما والحياة الحزبية خصوصا، وكرس نوع من السلوكيات الغير المرغوب فيها كظاهرة الترحال السياسي المفرط فيها و غياب الولاء للحزب و الانتماء إليه والدفاع عن برنامجه وتوجهاته وإيديولوجيته، ومشروعه المجتمعي.

رابعا: غياب الأحزاب السياسية خارج الفترات الانتخابية.

إن من الوظائف التقليدية التي تضطلع بها الأحزاب السياسية هي التأطير السياسي للمواطنين، والعمل على تكوينهم سياسيا، وتخريج نخبة وأطر قادرة على تدبير الشأن المحلي والوطني، وزرع الوعي السياسي في المجتمع، وكذا العمل على نشر ثقافة المشاركة السياسية والانتخابية، والتأكيد على أهميتهما. فهي مدرسة للتكوين والتأطير والتخرج.

إن الأحزاب السياسية المغربية، لا تعدو إلا إن تكون مثل دكاكين راكدة خارج الزمن الانتخابي. إنها شبه غائبة ما بعد انقضاء وانتهاء عملية الاقتراع، فنسب التأطير السياسي المتدنية تبين بجلاء غياب الأحزاب السياسية والقطيعة التي تسم العلاقة ما بينها وبين المواطن، على العكس من ظهورها بقوة في فترة الحملات الانتخابية، مما يوضح قوة الهاجس الانتخابي.

لقد اتسمت أنشطة الأحزاب على مراهنات وتحركات سياسوية أو إنتخابية محدودة. وعدم إنتاجها لعمل سياسي مجتمعي وثقافي مستمر ومتواصل الحضور والتأثير، وتحول بعضها إلى ما يشبه « مكاتب سمسرة انتخابية » تبيع التزكيات وتوزع الترضيات والإمتيازات والمناصب والمواقع والغنائم وفق معايير لا عقلانية متقادمة. وغياب معارضة حزبية أو نقابية قوية متماسكة المرجعيات والأهداف والمواقف المتعينة كما كان في الماضي.

لامناص من القول، ان الأحزاب السياسية تخلت عن وظائفها في التنشئة السياسية والتأطير السياسي، ومنه ضعف الانخراط في الأحزاب والمساهمة في الحملات الانتخابية والتصويت، لاسيما انتخابات 2007 و2011 الأخيرة… بالإضافة إلى التربية على الخوف من السياسة عند الكثير من المواطنين، وأيضا غموض مفهوم السياسة بالمقارنة مع ما يعاش وما يسمع عن السياسة، بالإضافة إلى كون انخراط الشباب يكلف الأحزاب ماديا وبشريا وهذا عيب يرافق الأحزاب منذ التأسيس لكونها تفتقر للقدرة المالية الكافية للتوسع، كما أن بعض الأحزاب هي شركات سياسية بأسهم مؤسسيها، تشتغل لحظة الانتخابات لمصلحة ذاتية بدرجة أولى، وتنظيم الأحزاب ما يزال لم يرق إلى المستوى المطلوب نظرا لكثرة الإكراهات، ولم تتحول إلى مدارس سياسية بعد.”

خاتمة

إن الانتقال الديمقراطي الذي يستوجب الانتقال من النظم الغير الديمقراطية والمؤسسات التي تشتغل بنفس القواعد و الأسس، إلى النظم الديمقراطية ومؤسسات ديمقراطية، فهذه الأخيرة التي تعد امتداد للدولة وتعبر عن توجهها، فكلما كانت هذه المؤسسات ديمقراطية وبلغت فيها الديمقراطية أوجها، انعكس ذلك على الدولة و المجتمع. وباعتبار الأحزاب السياسية كمؤسسة تقتفي في مسعاها الأساس الوصول إلى السلطة وتكريس الديمقراطية كتيمة لازمة للأحزاب وشعار دائم تتغنى به. فان الانتقال للديمقراطية و ترسيخها لا يمكن أن يتحقق إلا إذا عملت الأحزاب السياسية نفسها على تحقيق ذلك داخليا، وتلافي المثالب الذي اختلجت العمل الحزبي منذ النشأة و التي اقتصرنا على ذكر أهمها، وتلافي أيضا كل ما من شأنه أن يعوق هذا الانتقال.

ـــــــــ

طالب باحث في التشريع عمل المؤسسات السياسية والدستورية، كلية الحقوق سلا