وجهة نظر

مراجعة مقررات التربية الإسلامية.. ماذا يريد عصيد؟

مطالبة الملك بمراجعة مقررات التربية الإسلامية في البلاد جعلت أسئلة عديدة تتوارد إلى الأذهان حول الغاية من هذه المراجعة. ومع أن الملك نفسه والجهات الوصية لم تحدد الغايات التي تتوخاها من خلال ذلك، إلا أن أطرافا علمانية سبقت الأحداث ودخلت على الخط، ربما لتوجيه عملية المراجعة هذه بما يخدم أجنداتها الرامية إلى تقزيم دور الإسلام في المجتمع وتفريغ المناهج الدراسية من كل حمولة دينية قد لا تتوافق مع مسمّى”القيم الكونية”.

أتعجب فعلا من هذه الجرأة وهذا التناقض الصارخ الذي يطبع تصرفات وتصورات هذا الفريق العلماني المتطرف. فمن ناحية،تجدهم يدّعون الإيمان بحرية المعتقد وبفصل الدين عن الدولة ولا يريدون للدّين أن يتدخل في حياتهم ولا في حيات غيرهم الخاصة، باعتبار أن الدين في نظرهم مسألة تخص علاقة الإنسان بربه فحسب! لكنهم في المقابل،يجيزون لأنفسهمولغيرهم التدخل في شؤون الدين الإسلامي بالخصوص ولا يخجلون من إعطاء الدروس والنصائح والمقترحات حول ما يجب تغييره في مناهج التربية الإسلامية مثلا.

إنني أعيش في الغرب، في دولة علمانية يشكل المسلمون أقلية ضئيلة من بين عدد السكان فيها. ومع ذلك، فنحن من يحدّد مناهجنا الدينية ورؤيتنا ومبادئنا وكل ما يتعلق بأمورنا الدينية. وقد يوجد في مقرراتنا هذه الكثير من الأمور التي لا ترضي الغربيين. إلا أنهملا يتدخلون أبدا في شؤوننا الدينية. لأنهم ببساطة يحترمون مبادئهم وعلمانيتهم التي تقتضي أن لا يتدخل الدين في السياسة وأن لا تتدخل السياسة في الدين. وكلما تعلق الأمر بالدين يقولون: نحن نؤمن بفصل الدين عن الدولة ولا نتدخل في شؤونكم الدينية إلا إذا تم تجاوز القوانين! وفهم العلمانية وتطبيقها بهذا الشكل في الغرب ساهم في حماية الدولة وحماية الدين معا.

هكذا يفهم الغربيون العلمانية على العموم وهكذا يعيشونها إلى حد الآن على الأقل.أما بعض العلمانيين في بلداننا وعلى رأسهم السيد أحمد عصيد، فعلمانيتهم غريبة ومشوهةجدا. إنها علمانية في اتجاه واحد فقط، إذ تريد أخذ كل شيء من الدين لكنها لا تعطيه شيئاأبدا. ولأن الدين المعني هنا هو الإسلام، فلا حرج أن يدوس عصيد على مبادئ العلمانية المتعارف عليها في الغرب والتي من أساسياتها أن لا تتدخلالسياسة في الدين. السيد عصيد وفيّ لهذا المبدإ عندما يتعلق الأمر بالنصرانية أو اليهودية أو غيرهمامن الأديان ماعدا الإسلام، لأن حق المعتقد مقدس في نظره ولا يجوز للدولة بالتالي أن تتدخل في عقائد اليهود والنصارى مثلا.

إنسان يؤمن بهذا الفكر، من المفترض أيضا إن كان منصفا أن يقف ضد تدخل الدولة في شؤون الإسلام. لكن الحاصل هو العكس، فعصيد ما فتيء يدعو ويشجع على أن تتدخل الدولة بمؤسساتها لتغييرمقررات التربية الإسلامية ومناهج التفسير والاستنباط والوعظ والخطابة…مما يطرح أسئلة عديدة حول شكل العلمانية التي يؤمن بهاويبشر بها المغاربة؟

إنها علمانية تضمن للنصارى واليهود المغاربة ولكل أتباع ملة ونحلة حرية معتقدهم على مستوى الفهم والتطبيق ولا تجيز للدولة أن تتدخل في ذلك. لكنها في المقابل لا تعطي هذا الحق للمسلمين! فالدولة هي التي يجب أن تحدد لهم إسلامهم بشكله ومضمونه ومصادره ومراجعه. وإذا عجزت هذه الدولة بمؤسساتها العلمية عن برمجة مسلميها بالشكل الذي يريده عصيد، فهو دائما في الخدمة ليرشد الدولة(بفكره الموسوعي) إلى كيفية فعل ذلك!

أتساءل عن أسباب هذا الميز وعن محاولة أحمد عصيد حرمان المسلمين من هذا الحق “العلماني” الذي يريد ضمانه لغيرهم: هل يعتبر المسلمين سفهاء عاجزين عن فهم معتقدهم وتطبيقه بالشكل الصحيح، لذلك جوّز عليهم ما لا يجوّزه على غيرهم؟ أم أن عداءه للإسلام غلب على وفائه لمبادئ العلمانية التي يدّعي الالتازم بها؟

إن الحديث عن مراجعة مناهج التربية الإسلامية معناه مراجعة القيم والمبادئ السائدة واعتماد فهم معين للإسلام من بين أفهام قد تكون متعددة. وبناء على هذه القيم والمبادئ والأفهام التي سيتم اعتمادها خلال عملية المراجعة، قد تتحدّد وتتشكّل شخصية وفكر التلاميذ مستقبلا. فنحن أمام محاولة تشكيل وبرمجة جيل بأكمله.فهل يقبل الأولياء أن يلقّن أولادهم مبادئ وقيما “إسلامية” غير التي يؤمنون بها؟ طبعا لا يقبلون ذلك.

لا بد إذا من مراعاة رغبات ومشاعر وتوجهات واختيارات الأولياء بشكل عام. وفي حال حدوث أي مراجعة لمقررات التربية الإسلامية لا تراعي قيم أولياء التلاميذ وقيم عموم المجتمع بل قد تصطدم معها، فإن ذلك سيؤدي إلى فقدان ثقة هؤلاء الأولياء في هذه المقررات وربما في المدرسة نفسها! وسيبحثون عن مصادر أخرى لتلقين أولادهم مبادئ دينهم الحنيف كما يفهمونها هم ويعيشونها! وسنجد أنفسنا حينها أمام مفارقة غريبة عندما يصبح الأولياء متوجسين خيفة(وهم في دولة إسلامية) مما سيتعلمه أولادهم خلال درس مادة التربية الإسلامية! وربما يضطرون للتدخل عقب كل حصة لتصحيح ما قد يكون تلقاه أولادهم من مغالطات وقيم مخالفة للصواب في نظرهم! لذلك، لا أظن أن الجهات المسؤولة عن مراجعة مقررات التربية الإسلامية ستغامر مغامرة مثل هذه وتسير في هذا الاتجاه لترضي فئة علمانية متطرفة تمثل إقلية من الشعب، تريد أن تفرض عليه قيمها ومبادئها وفهمها للدين!

وإذا ما تمـت أية مراجعة لهذه المقرراتفلا بد أن تأخذ بعين الاعتبار تنمية الوازع الديني ومراقبة الله لدى الفئات المستهدفة، لأن مظاهر الانحراف بشتى أنواعهكالعنف والغش والغدر والكذب والانحلال والأنانية قد استشرت في المجتمع. نعم، لا بد أن يكون درس التربية الإسلامية وسيلةلتقوية إيمان التلاميذ والطلبة وربطهم بمبادئ دينهم وقيمه فهما وتطبيقا،وتعليمهم مبادئ الحلال والحرام، وتوعيتهم بالحقوق والواجبات سواء في حق الله أو في حق العباد. إنني لا أفهم كيف ندرّس أولادنا مادة التربية الإسلامية ونعلمهم مثلا أن أداء الصلاة في وقتها من أوجب الواجبات كما هو معلوم من الدين بالضرورة، بينما تكاد تخلو جل مدارسنا من أماكن الوضوء وقاعات الصلاة!!! وإذا لم يكن الهدف من تدريس مادة التربية الإسلامية هو تقوية التدين لدى الفئات المستهدفة خصوصا وفي المجتمع عموما، فلنسمّ المادة أي شيئ آخر غير “التربية الإسلامية” لأنها لن تبقى حينها تربية ولا إسلامية!