وجهة نظر

إدماج اليسار الراديكالي في الدولة.. تحالف استراتيجي أم التقاء مصالح

ثمة منهجيتان لدراسة ظاهرة إدماج الدولة لجزء من اليسار الراديكالي وتفسير أبعادها:

منهجية حصر المواقع والوظائف التي اضطلع بها اليسار الجديد في بنية الدولة ومؤسساتها، والانطلاق من قاعدة هذه البيانات الوصفية (الخاصة بالمواقع والوظائف) لتفسير مبررات الإدماج وخلفياته السياسية.

ومنهجية دراسة السياق السياسي وتفسير شكل الإدماج في ضوء احتياجات الدولة واستجابة هذا المكون ضمن الشروط الموضوعية والذاتية التي كان يعيش فيها.

الجرد الأولي للمواقع التي تكثف فيها حضور هذا المكون في بنية الدولة ومؤسساتها، يشير إلى خمس مناشط أساسية:

المنشط الثقافي: ونقصد به مختلف المواقع التي تشكل أوعية إنتاج التعبيرات الثقافية والفنية.

المنشط التربوي التعليمي: ونقصد به مختلف المواقع التي تشكل أوعية إنتاج البرامج والمناهج ورصد وتقييم مخرجاتها.

المنشط الإعلامي: ونقصد به مختلف المواقع المتصلة بتقديم الخدمة الإعلامية العمومية أو بالسهر على مراقبة هذه الخدمة والنظر في مدى موافقتها للقوانين المنظمة.

المنشط الحقوقي: ونقصد به المؤسسات الحقوقية الوطنية التي أنتجتها الدولة ومتعتها بهامش واسع من الاستقلالية لتكون محاورا أساسيا للدولة من جهة، ومخاطبا نزيها من لدن المنظمات الدولية من جهة ثانية.

المنشط الدبلوماسي: ونقصد به على وجه الخصوص المواقع السفارية والتمثيليات الدبلوماسية في الخارج.

تحليل معطيات هذا الجرد، تشير إلى أن إدماج هذا المكون في بنية الدولة ومؤسساتها ارتهن بأداء ثلاث وظائف أساسية، أو للدقة، الإمكان والرصيد الذي ميز هذا المكون، أهله لخدمة ثلاث وظائف أساسية:

الوظيفة الإيديولوجية: إذ تجتمع الثقافة والفن والسينما وبرامج التعليم مخرجاته وكذا الإعلام فيما يسمى من داخل الأدبيات الماركسية بالوظيفة الإيديولوجية للدولة.

الوظيفة الحقوقية: وتتمثل في الارتقاء بصورة حقوق الإنسان في المغرب، والاشتغال بشكل أكبر على الصورة، أي صورة المغرب الحقوقية في الخارج.

الوظيفة الدبلوماسية: وهي بالمناسبة، ليست وظيفة طارئة بررها رصيد اليسار الجديد، وإنما اعتادت الدولة توظيف العديد من المكونات السياسية المختلفة في تمثيلياتها الدبلوماسية في الخارج في البلدان التي تتقاسم معها هذه المكونات نفس الإيديولوجية.

السياق السياسي، لإدماج اليسار الجديد في مؤسسات الدولة، يقدم معالم مهمة لدراسة مبررات الدولة في الإدماج، واحتياجاتها في تلك المرحلة، وتقديرها للوظائف التي يمكن أن يقوم بها اليسار لملأ الفراغ الحاصل لديها.

أولى هذه المعالم: هو ضعف وترهل أحزاب القوى الوطنية والديمقراطية والبروز القوي للحركات الإسلامية المعتدلة التي تؤمن بالمشاركة في العملية السياسية.

ثاني هذه المعالم: هي حاجة الدولة إلى تعزيز شرعيتها وتقويتها والانتقال من وضع الدولة التي تصارع أحزابها، إلى دولة الإجماع، التي تتنافس الأحزاب ضمن السقوف التي يحددها الدستور والثوابت التي يرسمها.

ثالث هذه المعالم: هو التحديات التي أبرزها ملف الوحدة الترابية، والاستثمار الذكي لورقة حقوق الإنسان من قبل الخصوم، لإضعاف مبادرة الدولة لحل النزاع، وحاجة الدولة إلى الاشتغال على صورتها الحقوقية

رابع هذه المعالم: هو حاجة الدولة إلى ذراع إيديولوجي قوي يمنع إمكان هيمنة الإسلاميين على المشهد الثقافي، والخوف من أن يتكرر سيناريو اليسار الذي أمسك في عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله بكل مفاصل التعليم والتربية والثقافة والفن.

هذا من جهة الدولة، أما من جهة اليسار الراديكالي، فثمة تحولات عاشها هذا المكون سهلت في التقاء موضوعي بين مصالحه ومصالح الدولة نذكر منها:

حاجته إلى ملأ فراغ الإيديولوجيا، لاسيما بعد انهيار الأطروحة الماركسية: إذ لم تكن المنظومة الحقوقية سوى المدخل الأخف لاعتناق الإيديولوجية المضادة (الليبرالية) والمسلك الأريح للخروج من المأزق.

حاجة جزء مهم من مناضلي اليسار للاندماج الاجتماعي بعد سنوات طويلة من الاعتقال.

حاجتهم إلى لعب دور لمواجهة الإسلاميين بحكم أنهم كانوا ينظرون لهذا التيار باعتباره تيارا رجعيا تسبب في إجهاض الخميرة الثورية واستحوذ على قاعدتهم الشعبية.

إن تحليل طبيعة السياق الذي تم فيه إدماج اليسار الجديد، واحتياجات الدولة ضمنه، والتحولات التي كان يعرفها هذا المكون، تعطي صورة واضحة عن التقاء حقيقي للمصالح بين الطرفين أملى في المرحلة الأولى إدماج هذا اليسار من بوابة الوظيفة المدنية، إذ تقلد العديد من مناضلي هذا المكون مناصب مهمة في لجان البرامج والمناهج في وزارة التربية الوطنية، والفعاليات الثقافية التي ترعاها وزارة الثقافة وغيرها، بالإضافة إلى القنوات العمومية والمجلس الأعلى السمعي البصري، والمركز السينمائي المغربي، دون أن ننسى الكثافة التي مثل بها هذا المكون تركيبة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، لكن، في مرحلة لاحقة هذا الإدماج ستنضاف إليه وظيفة أخرى سياسية، تمثلت في محاولة إخراج حزب سياسي (حزب الأصالة والمعاصرة) من رحم مدني (حركة لكل الديمقراطيين) بنفس الطريقة التي انبثق فيها حزب الإسلاميين (حزب العدالة والتنمية) من حركتهم المدنية (حركة التوحيد والإصلاح)، لمواجهة الإسلاميين وتحقيق التوازن، إذ سيتم الرهان من خلال هذا الحزب على إحياء مفهوم الحزب الممثل للأغلبية الصامتة، والحزب القادر على تعبئة 80 في المائة التي لا تشارك في العملية الانتخابية.

دراسة الأثر في مداها القريب، تبين أن إدماج هذا المكون من بوابة الوظيفة المدنية، كان على حساب إضعاف أحزاب القوى الوطنية والديمقراطية، بل وعلى حساب المسار الديمقراطي الذي تعرض لنكسة كبيرة في انتخابات 2007، وكان الرابح الأكبر من هذه العملية هم الإسلاميون الذين برزوا كأقوى حزب سياسي معارض في المشهد السياسي، أما دراسة الأثر بالنسبة لإدماج هذا المكون من بوابة سياسية، فقد كشف الحراك الشعبي الديمقراطي الذي عاشه المغرب في 20 فبراير، أن كلفته كانت جد باهضة، وأن الإسلاميين- الذين أسس حزب الأصالة والمعاصرة لمواجهتهم- صار أكبر فاعل سياسي في المشهد السياسي جرت كل التوافقات التي تمت للخروج من مأزق الحراك بشراكة استراتيجية معه.