منوعات

اليحياوي يكتب عن “الحق في الاحتجاج”

يحزنني الأمر كثيرا حينما أشاهد شبابا معطلا محتجا، جماعات وفرادى، أمام الوزارات أو المحافظات أو الولايات، وأمام ردهات البرلمان أيضا، مطالبا ببعض من الإنصاف في حق شهادة عليا تبحث عن تقييم، أو بحق تكوين تم بالكامل المكتمل، لكنه لم يجد في الطرف الآخر، إقبالا أو استلطافا أو ذرة اعتبار.

هي احتجاجات تنبني على مطالب موضوعية ومشروعة، ترتكن على الدستور لإعمالها، وتنطلق من الحق في الاحتجاج السلمي، الذي تضمنه اللوائح والقوانين والتشريعات.

ليس مهما أن تتعامل السلطات العمومية بالإيجاب مع ذات الاحتجاجات، فتلك مسألة ضغط وموازين قوى. وليس من المفروض أن يدرك المحتجون مبتغاهم لأول وهلة، وبأول محاولة، فتلك مسألة وقت، وطول نفس وتوظيف للتكتيكات والمراوغات وفنون الحوار، من لدن هذه الجهة كما من لدن تلك.

لكن الذي لا يمكن للمرء أن يتغاضى عنه، فما بالك أن يقبل به أو يتقبله، إنما أمران اثنان:

الأول: ليس من حق المحتجين أن يذهبوا في احتجاجاتهم لحد تقويض مبدأ الأمن العام، بإغلاق الشوارع والطرقات مثلا، أو باستهداف المرافق العامة تدميرا أو حرقا، أو بالحؤول دون انسيابية حركة الناس أو ولوجهم لهذه الخدمة العمومية المستعجلة أو تلك.

الثاني: ليس من حق السلطات العمومية، إن احترم المحتجون هذه المنطلقات وخضعوا لهذه المتاريس الموضوعية، ليس من حقها أن تمنعهم بقرار إداري صارم من الاحتجاج، أو تغلق الشوارع والطرقات بوجههم، أو تحاصرهم تحت هذا المسوغ أو ذاك، لثنيهم عما هم عازمون عليه، أو تخويفهم من عواقب وتبعات ما يرفعون من مطالب وشعارات.

هذا بالمنظور السليم، هو الحد الأدنى لضمان حق الطرفين، محتجين وسلطات عمومية، وهو الحد الفاصل أيضا، لضمان حق المجتمع في ألا تتعطل مصالحه، أو تحول مجريات الاحتجاج دون حريته في الحل والترحال.

كل هذا قد يتم تنظيمه أو تقنينه أو التوافق بشأنه، لكن الذي لا يمكن القبول به بالجملة والتفصيل، إنما إعمال السلطات العمومية لمنطق التعنيف بسبب مبرر أحيانا، ودونما أسباب موضوعية تذكر في الغالب من الأحايين، والادعاء فيما بعد بأن لا يد لها فيما جرى، وأنها ستعمد إلى مباشرة التحقيق لتحديد الأسباب والخلفيات.

السلطات العمومية التي تلجأ لهذه الوسيلة، ليست مؤسسة هلامية ولا هي بالجهة المجهولة الصفة، إنها الداخلية وقوى الأمن بكل مستوياتها الخشنة، من شرطة ودرك وقوات مساعدة، تحتكم كلها لقوة النار والحديد، فتعمد إليها تلقائيا، باستفزازها تارة، أو بأمر مباشر صادر عن هذا المستوى التقريري أو ذاك، تارات أخرى.

إنها القوة الظاهرة التي تعمل على تنفيذ قرارات قوة خفية، لا تشتغل مباشرة بالأرض، لكنها تقرر وتحسم وتصدر التوجيهات، بناء على تقارير، أو قياسا إلى حسابات، أو إعمالا لتقديرات من لدنها قد لا تكون دائما دقيقة أو محسوبة بميزان الفعل ورد الفعل.

والقوة الظاهرة التي نقصدها هنا هم ذاك الشرطي أو الدركي أو المنتظم بسلك القوات المساعدة، والذين لا يحصلون في مجملهم على أكثر بقليل من الحد الأدنى للأجور…أي لا يختلفون كثيرا عن الذين يحتجون قبالتهم ( أعداءهم ” الافتراضيين” بالمحصلة)، إلا “بسمو” اللباس الرسمي الذي يرتدونه، والاحتكام إلى أداة في القمع لا يتوانوا في إشهارها، بارودة كانت، أم عصا، أم حزاما مصنوعا من مادة صلبة، لا يبدو بكل الأحوال أنها صكت من قطن، أو من نسيج ناعم للتخويف عن بعد.

هؤلاء هم الذين يتصدون للاحتجاجات، لا بل هم من يخمد نارها في الغالب الأعم، تفريقا سلميا، أو إعمالا للقوة الخشنة التي تضرب في المقتل (والمطلوب منها أن تضرب في المقتل، بالرأس أو بالبطن أو بيسار الصدر).

إنهم هم الذين ينوبون عن الأعداء الواقعيين، المرابطين بمكاتبهم المكيفة والمحصنة، أو المقيمين بضيعاتهم الشاسعة البعيدة عن “مناطق التماس”، أو المتناوبين على خطوط الطيران لتنفيذ هذه “المهمة” أو تلك، أو للاستجمام على حساب المال العام.

إن هؤلاء، شرطة ودركا وقوات مساعدة، إنما يقتلون (بالمفارقة الصارخة) أناسا من نفس طبقتهم، لا بل إنهم لا يتوانوا في اقتناء نفس وسيلة النقل تماما كضحاياهم، عندما تنتهي الجولة، ويعود كل إلى حال سبيله ومكان مبيته.

ثم إن هؤلاء هم الذين لا يتوانوا في ضرب وتعنيف محتجين، قد يكونون مجهولين “عند المبارزة”، لكنهم خاضعون معا لنفس الظلم والضيم تماما كجلاديهم، لا بل وربما يقطن هذا بمحاذاة الآخر، بهذا الحي الصفيحي البئيس، أو بهذا التجمع البشري ” العمراني” المهمش.

إني بهم ولكأنهم يقتلون بعضهم البعض، في حين أن الآمر بالقتل والتعنيف، وأبناؤه بعيدون عن ساحة القتال وما يترتب عنها من تداعيات. إنهم يتركوننا نقتل بعضنا البعض، من أجل ضمان حمايتهم وصيانة مصالحهم. لا بل قل إني بها (الجلاد والضحية معا) ولكأنها بمباراة رياضية، تكون المبارزة بينهما على أشدها في الملعب، لكنها سرعان ما تتحول إلى قبول بالنتيجة النهائية، ومن ثمة إلى محبة ومودة.