وجهة نظر

الإنسان وصراع الذئاب الثلاثة: مقاومة أم خضوع

استوقفتني العديد من المفاهيم ذكرها عبد الوهاب المسيري المفكر المصري والمناضل الاجتماعي في سيرته الذاتية “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية “، وقد اخترت أن أتوقف عند دلالات ومعاني ما أسماه الذئاب الثلاثة التي فصل فيها، محاولة بذلك قياسها على بعض مظاهر حياتنا اليومية.

هي ثلاثة ذئاب، ذئب الثروة – ذئب الشهرة- ذئب الهيجلي المعلوماتي، والتي تشكل تحدي حقيقي لمن يسعى إلى تحرير نفسه من استبداد واستعباد الماديات من أجل تحقيق التوازن الروحي والاجتماعي في كل محطات الحياة.

ذئب الثروة ويقصد به الرغبة العارمة في الوصول للثراء والغنى، أي تحقيق التراكم الرأسمالي للأموال، فيصبح الإنسان مهوس بتكديس الثروات وملاحقة أخر الصيحات وجنون الموضات، فلا يحس بالامتلاء أبدا، فشعوره بالحاجة كل حين إلى شيء جديد تغدو ملحة ومقلقة، وقد يزهد في تفقد علاقاته الإنسانية التراحمية بدعوى الحرص على النجاح والتحصيل المستمر للفوائد النقدية، وقد تمر حياته سريعا في الكد والسعي وتسلق سلالم الطبقات البرجوازية دون أن يعيش حياته الاجتماعية ودون أن يخصص سويعات للتعرف على ما يسعده حقا مما يشقيه ويخيفه، فيتحول بذلك إلى كائن مسلوب الحرية والإرادة والسعادة الحقيقية.

وتلعب مؤسسات التنشئة الاجتماعية من أسرة ومدرسة وإعلام دور كبير في ترسيخ ثقافة الوصول السريع للثروة بكل الوسائل وحتى غير الشرعية منها، ونلاحظ في مجتمعنا المغربي مثلا غزو إشهارات ألعاب القمار بكل أنواعه لذهنية المواطن، ليصل الأمر إلى درجة استغلال وسائل نقل وفضاءات عمومية لتكون واجهة لتلك الدعوات المستمرة في إذكاء هذا المعنى، فيغدو الإنسان المحظوظ “القافز، لي عندو الزهر”، هو من ربح الملايين دون أدنى مجهود يذكر، فيلجأ أغلب الشباب إلى الاعتكاف أمام محلات ومقاهي مخصصة لترويج بطائق “الربح الصاروخي” معطلين بذلك قدراتهم وطاقاتهم في انتظار ضربة حظ قد تتحقق وقد لا يحدث ذلك أبدا.

وذئب الشهرة، يعني به المفكر المصري تمكن حب الشهرة من الإنسان، فلا يقبل أن يكون غير معروف ولا يلتفت الناس إلى وجوده، وهذا الإحساس يغدو عميق كلما تخوف المرء من أن يغدو نكرة فتمس مصالحه بسوء، فهو يشعر بالأمان والاستقرار كلما كان مشهورا ومعترف به.

وهذا الهوس إذا لم يضبط وتوضع له شروط صارمة مع النفس الإنسانية سيفقد المرء الثقة في نفسه وستعطل رغبته في العطاء والإنتاج المستمر.

وتأملوا معي واقع المواقع التواصلية بمختلف تمظهراتها كيف تكرس هذا الجانب، سابقا كان الإنسان يغدوا مشهورا بإنتاج علمي أو أدبي أو تحقيق بطولات في مجالات معينة، أي أنه توج مساره لسنوات من الإجتهاد والعمل الجدي في عمل استحق به المكانة المحصل عليها.

أما في واقعنا الحالي، تغيرت حمولة الشهرة، وغدت بسيطة وسطحية وسريعة في أحيان كثيرة، فيغدو إنسان شارك لقطة من شريط فيديو، أو أنشأ صفحة افتراضية لمفكر أو داعية أو شاعر معروف يحصل على أعداد متزايدة من المعجبين والمتابعين، فما بالك بمن اتخذ شكل جسمه قنطرة لتحصيل العديد من الإعجابات والصداقات.

وتأملوا أيضا مستوى البرامج الإعلامية والمسابقات الغنائية مثلا، كيف تحولت إلى حلم شريحة عريضة من المتفرجين وكأن أبواب التاريخ قد فتحت لهم ليخطوا أمجاد هذه الأمة، فكم من نجم تحول إلى وسيلة ترويجية لشركات كبرى وهو يظن نفسه قد حقق تواجده الحقيقي غير مستوعب أنه كلما كانت الشهرة صاروخية كان الأفول والتراجع والاختفاء مصيرها.

هذه القوالب العديدة التي يجد الإنسان نفسه أمامها، تحتاج منه لمجهود فكري ومقاومة نفسية كبيرة ووعي دائم لفهم خلفيات هذه الدعوات المتتالية لإدخاله إلى عالم يستثقل فيه تسلق درجات النجاح والتميز بشكل ثابت ومدروس فيغدو أقل صبرا وتحملا لعقبات طريق المجد الذي يتطلب التدرج والتأني ودراسة خطواته بشكل جدي ومسؤول.

أما ذئب الهيجلي المعلوماتي فيفسره المسيري رحمه الله بالإشكال الذي يعترض طريق أغلب الباحثين والمفكرين والمتمثل في رغبتهم في إنتاج دراسات ” شاملة كاملة ضخمة ” محققين أقصى درجات التعميم والتجريد والشمول، مشيرا إلى أن هذا الذئب يؤخر الكثيرين عن إخراج أعمالهم إلى حيز الوجود ويعطلهم عن تخصيص جهد مقدر ومعقول لإبراز طاقاتهم في مجال الإنتاج الفكري والثقافي.

وتذكرت هنا بعض الأساتذة الجامعين الذين سألناهم أكثر من مرة حول غياب أعمالهم الفكرية، فكان جواب أغلبهم بكون الطموح أكبر والهوس بالبحث المستمر قوي، في حين نجد ونحن الآن على مشارف انطلاق المعرض الدولي للكتاب سيل متدفق من الكتابات إذا تم تقيمها قبل عرضها على القارئ سينجد المضمون نفسه بعناوين جديدة براقة، والكيف غير حاضر مقابل الكم المتضخم.

لنقول إنه في واقعنا الحالي مقابل الهوس بالتدقيق وتجميع أكثر المعلومات والأفكار المفيدة مما يؤخر خروج الكثير من الأعمال الجادة لمعانقة المجتمع القارئ نجد “تسونامي” من الإنتاجات المرهقة نفسيا وماديا للقارئ بدون تحصيل أية استفادة تذكر، فالأمر يبدو متوقع فالطبيعة لا تقبل الفراغ، فمتى غابت الكتابات الموضوعية العلمية الدقيقة اكتسح السوق الثقافي أعمال لا تحقق إضافات نوعية لأنها لا تستجيب للتحديات الراهنة ولا تجيب عن أسئلة القارئ الملحة، ولا أعمم هنا لأن هناك إصدارات جادة ومتميزة، لكنها قليلة ولا تحقق التراكم المطلوب.

بين هذه الذئاب الثلاثة الإنسان مخير بين أن يكون سيد نفسه، يروضها ويعاديها ويحد من تأثيرها لكي لا يخسر عمق كينونته، وبين أين يستسلم ويخضع ويخنع، فيفقد بذلك جوهر عقله وروحه، ويدخل في دائرة الاستلاب والتطبيع مع الموجود من الأفكار والسلوكيات المنتشرة.