وجهة نظر

السلفية وتهافت خطاب التجديد الديني (2/1)

يرادف مفهوم السلفية في الفكر الإسلامي المعاصر ،مفهوم النزعة الأصولية والإصلاح الديني ، وغيرهما من التسميات التي يمكن أن يعثر عليها الباحث المهتم بأدبيات الفكر العربي المعاصر .

ومن الثابت أن المفهوم ينتمي الى دائرة الألفاظ القديمة في التراث الإسلامي ؛ فالسلف هم القدماء ، والخلف هم تابعوهم من المحدثين. ويشير كذلك الى الحركة الفكرية التي أسسها ” أحمد ابن حنبل ” و ” ابن تيمية ” ، واتسمت دلالته باطلاقه على الحركة الإصلاحية الحديثة الممثلة في ” محمد بن عبد الوهاب ” و ” الشوكاني ” والمهدية والسنوسية في القرن الثامن عشر . الا أن هذا كله لم يؤسس مفهوم السلفية على مستوى دلالته الفكرية المعاصرة ، اذ اتخد المفهوم صورته مع الحركة الإصلاحية التي أسسها ” جمال الدين الأفغاني ” و ” محمد عبده ” اللذان اتفقا على أن سبب تأخر العالم الإسلامي يكمن في ترك حكمة الدين وسيادة الجمود والتقليد.

لكن ليس همنا هنا تحديد المفاهيم وسياقاتها التاريخية ، انما علاقة السلفية بدعوى التجديد ودور العقل في ذلك ، ويمكن الإقتصار على القول أن السلفية طائفة تعتبر مادتها ومرجعيتها العلمية ،الروايات والأخبار والآثار المنقولة والمروية عن النبي – ص- وعن الصحابة والتابعين ،ومن سار على نهجهم. وأئمة الحديث وعلماء السنة كابن تيمية والامام أحمد وابن القيم ومن سار على مذهبهم الفقهي والعقدي .

واذا رجعنا الى التاريخ ، نجد أنه قد كان من المشهور، اجماع علماء المسلمين على الاقرار بأحكام العقل ، فما حكم بسقوطه على قطع فهو ساقط ، كما هو الأمر في فهم ثبوت النصوص الدينية وشرحها. لكن الاختلاف انما حدث في أحوال حكم العقل ، من مثل الاكتفاء بالظهور الأولي للتناقض، فيصح به رده دون اعتبار لأوجه أخرى تحتمل الصواب، أو مراعاة التروي والتأمل والمهل واستنفاذ الممكنات والتأويلات التى قد تحتمل الصواب وتراعي العقل .

ولعل استشكال هذه المسألة ،استفرغ الحديث فيها في أدبيات ومنطقيات العقل والنقل ، ولا نرى ضرورة اجترارها . لكن ما نود التنبيه عليه ؛هو غلبة الاقرار بحصول التناقض، وذلك لاختلاف موضوعي الحكمين ،فانتصر البعض للعقل ،وانتصر البعض للنقل ؛وحاول الآخرون التوفيق بينهما. وكل وفق ما تقتضيه الأحوال، وهذا مشهور لدى المسلمين .

لكن توجد جماعة ،تقر بعدم جواز العمل العقلي في بحث واستكناه المسائل الدينية ؛باعتباره تجاوز للحدود الشرعية ، فمن الواجب اذن الاكتفاء بما ورد في الآثار والأخبار ، والاقتصار بما قرره السلف من فهم؛ فليس من المتاح بلوغ أحسن وأدق منهم ،وليس بالامكان الاتيان بأفضل مما كان .

ان الطائفة السلفية هنا ، ليست من أهل النقل ولا من أهل العقل ،ولا تتوسطهما . بل اتخذت منهجا شاذا ، جعلها تقدس الأشخاص وتلحق بهم العصمة والتعالي عن الزلل والخطأ ، وهذا كلام مبالغ فيه ، فحتى الصحابة لا يوجد دليل شرعي يجيز تقليدهم؛ بل ان التقليد مرفوض دينيا ،وعوضه وجد الاجتهاد. ووجب على كل مسلم حسب حاله وفق ضوابط علمية وشروط شرعية .

ان قصارى ما يتسم به الخطاب السلفي، هو الحفظ والاستذكار والتقليد الأعمى، ورفض التجديد واعادة الجدة للضوابط والقواعد الفقهية التي يبلغ بها تجديد أمور الدين بما يتناسب مع الزمان والمكان والأحوال ؛كما يتسم بتعطيل ملكة العقل التي يحصل بها الاجتهاد . فلا غرابة اذن في هذا الانفصام الذي يعيشه السلفي بين روحه وفكره المستلب، وبين واقعه المعاش ،ولا غرابة في وصفاته الدينية لعلاج بعض مشاكل عصرنا . انه ببساطه في زمن غير زمانه، فلا يزال يحقد على هذا العصر وعلى أهله .أوليس خير القرون قرن النبي والقرنان اللذان بعده ؟

ان شيوخ السلفية ذوو ضعف شديد في مناهج استنباط الأحكام من أدلتها، غير متمرسين في استعمال القواعد التي عليها مجرى أخذ الأحكام من أدلتها ؛ وهذا جلي واضح في أعمالهم .فليسوا آخذين الضوابط كما هي ،أو هم غفل عن بعضها مما هو ضروري لابد منه في هذا المقام ؛ فتراهم يحملون بعض الأحكام على نصوص ليست تقصدها ،ويبعدون أخرى عن أحكام تحويها وتعنيها.

لكن يلزم ضرورة ، التمييز بين السلف والسلفيين: فالسلف لهم بصمة عظيمة في الاجتهاد وفي استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، بل كان معظمهم روادا في علم الأصول ،لكن السلفيين المعاصرين انما يركنون الى تقليد السلف ،ونفي الخطأ عنهم، بل وتقديسهم لدرجة اهمال الأصول. فأغلبهم يخبط خبط عشواء، ويظن أن الإسلام محصورة شعائره في أشكال ومظاهر وأنماط جامدة في السلوك ، لا حركة فيها ولا روح؛ بل هي قاصرة المعاني .

ويهمنا في هذا المقال معرفة رأيهم في فقه النصوص ، فأساس دعوتهم تجديد العقيدة وتصفيتها مما علق بها من الشبهات والأدران ،وما يخالف أصولها . ولعل جدالهم مع مخالفيهم قديم ولا يزال ساريا بخاصة النصوص الشرعية الواردة في شأن العقيدة ، واذا كان منبع نظرهم الآثار والروايات؛ فانهم لا يرون حولا ،الا الإقتصار على تفسير السلف لها، ففي اعتقادهم لا يمكن مجاراتهم في ذلك ؛بله ادراك مداركهم ومجاراتهم في أمور الدين والفقه.

فليس يحجب اذن عن المنطق مافي هذا الأمر من الجام للعقل عن جادة الصواب ،وتحجير عليه ، وصد عن التأمل والتبصر؛ بل وكف عن الإجتهاد الذي به تبلغ الحاجات والمصالح . ولما كانت حالة السلف هي الاجتهاد بمراعاة الأحوال والمقاصد ، واستنباط الأحكام من أدلتها كما فعل “ابن تيمية وابن القيم ” بنظرهم الثاقب، ناهيك عن الحنابلة واجتهاداتهم – رغم ما فيها من قصور وتشديد على العقل والتأويل – غدت حالة سلفيي هذا العصر الاجترار والحفظ ، ويكأن الفكر بلغ أوجه وانتهى الزمن والتاريخ في عصر السلف ، وهكذا يسعى الخطاب السلفي المعاصر الى بناء نظام جديد للزمن يكون فيه الماضي هو الحكم على الحاضر والمستقبل ،وجعل من سبقونا يفكرون عوضا عنا ويهتمون بحل مشاكلنا ،وما علينا الا الانصات والطاعة ؛فقد بلغوا من الفهم ما لا طاقة لنا على بلوغه ،وأوتوا من العلم ما لم نؤته.

هكذا يرفض الخطاب السلفي الانخراط في التجديد، ضاربا بمنطق التقدم عرض الحائط، أوليست وسائل المعرفة اليوم متاحة ومشاعة أكثر مما مضى ؟ أليس بامكان عالم الدين اليوم أن يبلغ من الادراك والفهم ما يتجاوز بكثير فهم السلف ؟ ألم تتغير الأحوال والأفهام والمفاهيم وتطورت العلوم والمناهج بشكل لا مجال لمقارنته بعصر السلف ؟

ان السلف اجتهدوا ، ولهم فضل ذلك . لكن وفق أحوال عصرهم الفكرية والسياسية والاقتصادية والبيئية والثقافية…ولا يجوز البتة الادعاء بأن اجتهاداتهم وفتاويهم صالحة لكل زمان ومكان ، فكما ليس بمقدورهم التغذية عوضا عنا، ليس بمقدورهم التفكير عوضا عنا . من أجل ذلك لا بأس من الأخذ عنهم في مناهج اجتهاداتهم وأسبابها ، وليس في نتائج ذلك ومحصلاتها . ومن رام وسعى الى تجميد الادراك على ما جاؤوا به في المسائل الدينية ،وتقييد الحق فيه، فانه مجانب للصواب ،مخالف له ، وساع الى حرمان هذا الجيل من أسباب القوة العلمية والفكرية التي بها رقي الحضارة وفهمها لذاتها ولتميزها ، ولقدرتها على الاستمرار ….

فليس في الشريعة ما يدعوا الى الجمود والخمول والتقليد ، بل هي في الأصل دعوة الى التجديد والعقل والنظر والاجتهاد ؛ من أجل ذلك اجتهد السلف فلماذا اذن لا يجتهد السلفيون ؟ حاصل القول ان هؤلاء لا يتغيون تجديد منهجهم في فقه النصوص، بل قصارى ما يدعون اليه ويتمسكون به عن عمى هو تنقية الشريعة من البدع ومن الفروع ومن ثقافات الأمم الأخرى، وهكذا يصارعون الأوهام ويتركون الواقع ، وكأن سبب نكوصنا وما نحن عليه من ركون كله مكائد ، لا دخل لنا فيها .

من البديهي اذن – وحالة السلفي هذه – النفور من كل عمل عقلي منطقي ، ومن كل ما قرب اليه من قول ومن عمل ؛ باعتباره مصدر كل شر وفساد . واذا قال السلفييون بالتجديد ، فلا يعنون الا احياء فكر السلف بشكل كلي ، فلم يعد هناك مجال للإجتهاد ، وهكذا يظنون ، أفلا يعقلون ؟