وجهة نظر

اعتداءات باريس و تهافت المتطرفين

باريس عاصمةُ الأنوارِ كما يُقال، خبت أنوارها ليلةَ الجمعة 13 نونبر 2015 إثرَ اعتداءات إرهابية مُفجعة خلَّفت عشرات الأشخاص بين قتيل و جريح، في عمليةٍ وُصفت بأنها الأبشعُ منذُ الحربِ العالمية الثانية. و لأن هذا الحدث الإرهابي سياسي محض – و ليس عقائدي كما حاول البعض التسويقَ له- فقد كان بمثابة فرصة استغلها اليمين المتطرف في فرنسا للخوض في حملة انتخابية سابقة لأوانها، بعد وصف مارين لوبان – زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف- الإسلام بالإرهاب، دون انتظار نتائج التحقيقات،عازفةً بذلكَ على وترِ القومية الحساس، و مستغلةً مشاعر الغضب داخل المجتمع الفرنسي لتُوجهها ضد الإسلام و المسلمين، جاعلةً منها سلاحا لتَصَدُّر الإنتخابات الإقليمية المزمع تنظيمها منتصف دجنبر المقبل.

السؤال الآن هو هل كان دافعُ هذا العمل الإجرامي ديني فعلا، أم أن مجموعة من المعتدين استغلوا آيات قرآنية محكومة بسياقٍ معين،و أوَّلُوها وفقا لأهوائهم بشكلٍ انتقائي، و جعلوا منها مطيةً لإقناعِ أنفسهم بمشروعية الفعل الذي أقدموا عليه؟ “و على نسقِ القول بأن الإرهاب لا دين له و لا وطن، فإنهُ ليس هناك إرهاب واحد بل عدة أنواع، و لكنها تخضعُ في مجملها إلى اختلاف الدوافع و المظاهر و الأهداف، و تتفقُ في عدم أخلاقيتها حتى لو جاءت من خلفِ ستار ديني و أخلاقي” (1)

هنا تتحركُ الآلة الإعلامية لتجعل من الأكاذيب و الإشاعات حقيقة مطلقة تقتحم عقول الناس و أفئدتهم، فتجد أن عامة المسلمين قبل غيرهم يذهبون ضحية لأكاذيب الإعلام فيربطون بشكل مباشر بين الإسلام و الإرهاب؛ و الواقع أن مجمل العمليات الإجرامية التي عرفتها البشرية كانت دوافعها سياسية محضة و إن تم تغليفها بغطاء ديني، فاضطهاد الأقليات في أوربا و الحروب الصليبية و ما يقومُ به جيش الرب في يوغاندا من جرائم و تقتيل بضمير مرتاح، ظنا منه أنه يطبق ارادة الله في الأرض، و أن مصيره لا محالة سوف يكون جنة الله صحبة يسوع المسيح… و غيرها من الأعمال الإرهابية ليست من صلب ما دعت إليه المسيحية الحقة من سلام و محبة، بل كان نتيجة لنزعة استبدادية و تحكمية مرتبطة بإحساس الفاعل بالقهر في رؤيته لنفسه أو للكيان الذي ينتمي إليه تارة أخرى…

إذن فربط الإسلام بالإرهاب هو اعتداء و تشويه و ظلم لحوالي مليارين(2) من سكان الأرض من مختلف الثقافات والأعراق، والذين ارتضوا الإسلام دينا يُشبعُ حاجاتهم الروحية و يُنظم علاقاتهم الإجتماعية، و فيهِ تهديد لحوالي ستة ملايين مسلم (3) يعيشونَ على الأراضي الفرنسية حياتهم العادية بسلام، دون أن تمتد أيديهم إلى غيرهم من سكان فرنسا أو تُلطخ بدماءِ الأبرياء. و عليه فالأصوات التي ربطت بين اعتداءات باريس الإرهابية و الإسلام،في جوهرها ليست إلا محاولات يائسة مكشوفة للتمهيد لسطوع نجم اليمين المتطرف في فرنسا لربح معركة الإنتخابات المقبلة، و المؤسف حقا هو أن الأسس التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية منذ ثورة 1789 التي أطاحت بالنظام الملكي التحكمي المطلق، والتي اعتُبرت نقطة الإنطلاق للتاريخ الفرنسي الحديث، بقيم الحرية و المساواة و احترام الغير و سيادة القانون…

(المؤسف) هو أن فرنسا – و أقصد هنا بشكل أكبر المجتمع الحقوقي و المدني الفرنسي – بدأت و بشكل مهول،كما قال د.طارق رمضان، تفقدُها و تفقد معها قيمها في الإنفتاح على الآخر و حرية التعبير، و لم تعد في انسجامٍ مع مبادئها و عاداتها في التسامح و مواجهة الأفكار بالأفكار، بل أصبحت تُنتج خطابا يُخوِّن هذه القيم و الأسُس و يضربُ بها عرض الحائط.. و أضحت تصريحاتُ بعض رموزها السياسيين المتطرفين تنشر الكراهية و الصراع، و صار تدخلها رفقةَ غيرها في قوى الإستكبار العالمية في شؤون مجموعة من الدول يُزكّي طرح الإرهابيين و يمدهم بالقوة للإستمرار في تنفيذ هجماتهم الإجرامية..و الخاسرُ في نهايةِ الأمر نتيجةَ هذهِ اللعبة القذرة هم الأبرياءُ الذين أُزهقت أرواحهم بدونِ حق، و المسلمين الذين استُبيحت أعراضهم و شُوّهت سمعتهم و عُرّضت حياتهم للخطر جرّاء هذه الأفعال الإجرامية.

———————————–
(1): منى عبدالفتاح / “جماعات العنف في افريقيا..الحصاد المر” ؛ الجزيرة نت.
(2): إحصائية أجراها موقع muslimpopulation المهتم بنشر آخر إحصائيات تعداد المسلمين حول العالم – 2015
(3): نفس المصدر السابق؛