منوعات

الرحموني يكتب عن صراع قوى التغيير وقوى الجمود

إن العلاقة بين قوى التغيير والإصلاح من جهة، وقوى السكون والجمود والسلطوية من جهة أخرى هي علاقة بين ضدين نقيضين، لا يمكن أن تنهض على أساس من الثقة والقبول، وإنما تغلفها ظلال كثيفة من الرفض والريبة والتوجس.

وأي تعايش قد ينشأ بين الإثنين لا يكون علاقة حتمية عن تراض واختيار، وإنما عن اجبار اللحظة ولدواعي الحاجة العابرة والاضطرار المفروض والذي يراهن على تفويت الفرص على السلطوية أن تتجذر وتتحكم وتتمكن. هو إذن تعايش تحتمه موازين القوى وأقدار اللحظة السياسية والسياق الظرفي والتكتيكات اللحظية.

إن قوى الإصلاح مهما اشتد عودها، وقضت حتى على الجزء الغاطس المتخفي من التشكيل السلطوي الجامد والقديم ستجد نفسها بعد ذلك أمام قوى ومؤسسات السكون التي تبقي الجزء الأكبر من جسدها مختبئاً في الأعماق، وقد تضطر قوى الإصلاح والتغيير -بعد أن تكون قد أُنهكت- إلى القبول بها والتعامل معها بشكل مؤقت وعابر.

ومؤسسات السكون والجمود السلطوي بدورها لو عجزت عن منع التغيير أو فشلت في إجهاضه فلن تجد أمامها بديلاً غير السير في اتجاه التيار وركوب موجة مطالب الإصلاح والتغيير حتى لا تفقد الزمام تماماً من يديها. ومع أنها قوى سكونية جمودية تكره نداء الإصلاح إلى الحركة والتغيير، إلا أنها لا تتردد في تلبيته مع أنها تمقته، بل ولا تتردد في ترديده مع أنها تحاول أن ترده.

هي قوى استاتيكية بطبعها متى حملتها مفاجأة التغيير على الحركة إلا وتتعهد بتنفيذ أهدافها. أما على الأرض فتتعامل مع قوى الإصلاح على وقع ما تراه، لا ما تعهدت به.

طبيعة قوى السكون والجمود

القوى والبنيات السكونية هي كل بنية اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية عتيقة وعميقة لا تحب الحركة والتغيير.

تعتبر أن الحركة ضرراً، وأن التغيير شراً، وأن التجديد انحرافاً. قد تكون جهازاً حكومياً أو نخبة أو رجال أعمال أو تياراً أيديولوجياً، وأية قوة أخرى تحاول أن تبقي على القديم برغم عيوبه وتسفه الجديد برغم أهميته.

هم فاعلون سياسيون يدافعون عن حالة السكون ووضع الجمود والجموح إما لأنه سبق لبعضهم قبل الحراك الديمقراطي أن استفادوا منها عندما استحوذوا في ظلها على الحيز العام في مواقع الدولة والمجتمع بأدوات الهيمنة السلطوية وباتوا يحاولون ألا يفقدوه ويستعيدوا إرادة إدارته وامتلاكه من جديد حتى بشكل غير ديمقراطي استئناسا منهم بأن قوس الإصلاح الذي انفتح انسد، أو لأن بعضهم الآخر دخل إلى هذا الحيز راكباً قطار الدولة وشعار الإصلاح ولا يريد أن يتركه وهو للتو قد دخل إليه، ومؤسسات الجمود والسكون المقصودة هنا متنوعة ونافذة.

طبيعة التناقضات الكامنة بين القوتين

وهكذا تمضي العلاقة بين المتناقضين. قوى الإصلاح تتحول إلى شوكة في حلق مؤسسات السكون لأنها تحاول بناء واقع مختلف ونقيض تماما للمعهود السالف. ومؤسسات السكون تتحول إلى عبء على الإصلاح وديناميته لأنها تركب على أكتافه متظاهرة له بالمناصرة بينما هي تثقل عليه وتكاد تغرقه.

والتناقضات بين قوى الإصلاح وقوى السكون كثيرة: من الاختلاف على أساليب وحدود تصفية الماضي، إلى طبيعة وشكل المستقبل.

والتناقضات بطبيعتها تتصارع ولا تتعايش، تتناحر ولا تتوافق. تعايشها إن حدث فمؤقت وتوافقها إن تم فهدنة عابرة، ولهذا يهدد أي حركة اصلاح أن لا ترى ولا تلمح التناقض بينها وبين المؤسسات والقوى السكونية، أو أن تضطرها صيرورة التحول من قوى الإصلاح المعارضة إلى سيرورتها نسيجا يشتغل في نطاق الدولة إلى وضع عهدة التغيير في يد تلك المؤسسات التي لن تتردد في تبريد أو تحديد أو تجميد إن لم يكن تبديد مدى الإصلاح والتغيير. وشيء من هذا يجري حالياً مع ما بات يسمى إعلامياً “بمحدودية دينامية الربيع الديمقراطي”، وهي في حاجة إلى وقفة ناقدة.

فحركة الإصلاح لا تسعى فقط إلى التخلص من بقايا النمط السلطوي التحكمي العتيق والعميق والقديم -وهي مهمة ليست سهلة- وإنما تحاول أيضاً أن تقهر قوى ومؤسسات السكون التي تستمر حتى بعد سقوط منظومة التحكم في صيغتها القديمة بأكملها، وهي مهمة أشد صعوبة. ولهذا السبب قد لا يرقى ما حدث في النسق السياسي والاجتماعي العام حتى الآن، برغم أهميته وخطورته، إلى وصف الحركة الإصلاحية للدولة والمجتمع بالشكل الأرقى والمطلوب في البدء.

وقد تبدو في هذا الرأي قسوة، لكن فيه أيضاً مصارحة، كذلك فإن تعبير الإصلاح الديمقراطي الناجز والتام والكامل لا يبدو منسجماً مع ما نبصره من مشاهد وما نسمعه من حكايات ونعايشه من وقائع. فليس هناك ورود تتفتح، وليس هناك فراشات تطير، وإنما محاولات للردة والنكوص الديمقراطيين. وليس هناك بشائر لنسيم سياسي قادم منفتح رومانسي وردي رخو، وإنما زوابع وتلال من الغبار والأتربة والغيوم والتموجات. ما تبثه الوقائع السياسية والمؤسساتية، مشاهد للمراوحة والتشنج وليس للتمكين والتهليل والتهاني، فكيف بنا والوضع على هذا النحو؟

ما جرى لأكثر من عام أن هبات شعبية عظيمة انفجرت في العالم العربي فأسقطت حكاماً في دول، وحركت السواكن في مغربنا الرسمي والشعبي وساءلت نمطا سلطويا للحكم كان سائدا في مملكته، لكنها -الثورات والهبات الشعبية- لم تسقط بعد كل النظم حكامها القدماء ولم تفكك كل البنيات العميقة والعتيقة والسلطوية البائدة، كما لم تلتفت إلى مؤسسات وقوى السكون المنتشرة حولها، والتي بدأت تتلقفها بخبث وتحتضنها بذكاء إما لكي تحبط تلك الثورات بالكليةً والحركات الإصلاحية والتغييرية لنمط التدبير والحكم، أو لتديرها بالمنطق الذي تعرفه مؤسسات السكون، وهو أن يبقى التغيير دائماً، لو كان لا فكاك منه، في حده الأدنى والمراقب والمتحكم في مخرجاته والذي يفضي في النهاية إلى إعادة الانتاج لذات النمط السلطوي عبر تكريس الحنين إليه، لكن في إخراج آخر وبحلة جديدة وبديلة.

إن القوى والمؤسسات السكونية لا تحب الحركة في اتجاه الإصلاح، وإنما تفضل عليها الثبات السلطوي، ولا تميل إلى التغيير الديمقراطي، وإنما إلى الاستمرار الرتيب للأوضاع الآسنة والجامدة.

ولو اضطرتها الظروف إلى الوجود في أنواء الحركة – وأخطرها بالطبع حالة الحراك الانتفاضي العارم والجارف، فتسعى إلى أن تكون بطيئة ولو استطاعت فستجعلها تدور في وضع رتيب ودائري. وبسبب طبيعتها المحافظة، تعتبر قوى ومؤسسات السكون العدو الصامت للحركات الإصلاحية وللقوى التغييرية.

تدعي في العلن أنها مع الإصلاح بينما في العمل والعمق تحاول أن تلجم دينامية التطوير والتدبير السلس للمشكلات، تزعم أنها تريد للإصلاح أن تنطلق مسيرته بسرعة، لكن ليس بسرعة الحركة المنطلقة وإنما بسرعة الثبات الكابح والرادع، إنها الازدواجية التي تعني الجمود والاضطراب وإعادة انتاج الرتابة والتردد والانتظارية السياسية والمراوحة في المكان.