منتدى العمق

عشرون فرسخا تحت الأرض!

“أ دماغك مملوء بسباغيتي فاسدة ؟ لابدّ أنك تستطيع العدّ حتى العشرة فقط، أكاد أجزم أنك ستصير حكم ملاكمة! ” كان كلّ التلاميذ يضحكون من النكتة، وحدي كنت أتقلّص بمكاني وألعن في سرّي اختراعات البشرية التي لم تفلح في اكتشاف طريقة لإزاحة وجودنا الماديّ حين تطوّقنا نظرات البشر اللئيمة..

كانت حصّته معاناة أتذكّرها جيدا ولما اشتكيت للمديرة نهرتني وأفهمتني أنه يظل الأستاذ ونظلّ عبيده. أمضيت السنة الدراسية أتحمل استثمار زملائي لسخريته وأنهيتها بإدانة مادة بريئة صرت أكرهها بعد أن حققت مستويات مهمّة في إفراز الأدرينالين كلما حان موعدها !

البارحة وبعد أكثر من ثلاث عشرة سنة على آخر درس جمعني به رأيته بالشارع مشغولا بترتيب بعض الأوراق، ألقيت عليه التحية وحيّاني بملامح استفهامية، أخبرته أني صاحب جمجمة السباغيتي.. تذكّرني فورا، كان متفاجئا، أخبرته أنني بحثت عنه وعلمت أنه انتقل وأنني انتظرت طويلا أن ألتقيه يوما فقط لأخبره أنني ما صرت ..حكم ملاكمة !

كان متأثّرا للغاية من جملتي، أحس أنه مذنب بأمر ما.. قال أشياء كثيرة عن أنّ الأمر برمّته كان مزحا يحب أن يلطّف به جوّ الحزم، وأن كلّ عام كان هناك رمز بحسب الأحوال، قد يكون كرنبا أو دجاجة أو حتى غطاء قارورة، لقد كان الأمر مضحكا ومخزيا بالآن ذاته، كنت أقف مع ستّيني أمضى عشرات السنوات وهو يشرف على تفريخ مخلوق منتفخ من العقد على الأقل مرة كل عام ولا يرى في الأمر خطرا البتة !

كنت في الثالثة عشرة من عمري حين علمت أن الأستاذ قد يصنع من بعض تلاميذه مهرّجا من دون إذنه و حين أخذت من مديرة مدرستنا أول مثال من العبودية التي درسونا بالتاريخ، لكنّها لم تكن عبودية عادلة أبدا فالعتق منها كان في أواخر ماي، لقد رفضت بتبجّج منطق مديرتنا الأعوج لكنه جعلني اكتشف واقعا يوميا مقرفا نعيشه على دفعات..

فالتربية والتعليم فن قبل أن يكون مهنة، لكننا بالوقت الذي كان فيه الإفرنجيون الصغار وحفدة العهد الڤيكتوري يتلقّون أصول الذوق السليم والفكر النبيل كنا في “التفتح الفني و التكنولوجي” نقطع و نلصق المكعبات والأشجار ونلون لحيّ المؤمنين وعمامات الكفار، أووه هل نحن حقا فوق الأرض أم تحتها بعشرين فرسخ؟

وفي الختم..، إن جلّ المشاريع الحالية لإنعاش التعليم تنبعث منها روائح كولونيا تحجب عنها كثافتها الحقة، ولو جمّعناها في خلاط كهربائي دون أن نضيف إليها سائلا يعيد إليها الحياة لظلت محذّبة مبتورة، وهذا السائل هو الإنسان، فنحن نحتاج أولا إنعاش المعلّم لينتعش المتعلّم نحتاج أن نتوقّف عن صرف الأموال في استيراد آلات الإنتاج الضخمة والمحركات، إننا بحاجة للمواد الأوّلية بحاجة لصناعة الإنسان، إنسان سليم خال من العضيات المجهرية والعقد المركّبة وإلا سيكون علينا أن نقنع بجيل جرّار من العاهات النفسية دون أن نتساءل لاحقا عن السبب !