منتدى العمق

عودة إلى “الأدبي” و”العلمي”!

غالبا ما أجدني في مواضع عديدة محاصرا بطلبة من شعبة “العلوم”، يضعون بجانب مثلثاتهم وأشكالهم الهندسية جماع كتب أدبية، يقرأون المتطابقات الهامة ونظريات الجبر بحماس لا عمر له، مثلما تجدهم على أهبة قراءة أو ” الاطلاع ” على ديوان شعري أو رواية أو قصة … تذكرنا هذه الحالات التي نصادفها كثيرا بتلك الخطابات التجريحية التي أضمرت أكثر مما أعلنت، لتخلص إلى الآتي: كليات الآداب والشعب الأدبية لا أهمية لها! واستحضرنا تلك الردود لمثقفين كبار، ومما شدنا فيها ما كتبه الناقد سعيد يقطين في مقالة رائدة كان عنوانها ” ليس دفاعا عن ” الأدبيين”، مقالة أوضح فيها تقاطعات الشعب الأدبية مع الشعب العلمية، ملمحا إلى الدور البارز الذي لعبته كليات الآداب في المشهد الثقافي المغربي. إن العودة إلى تلك الصورة النمطية حول الأدبي و كليات الآداب تجعلنا نعاود طرح سؤال جوهري هو: لماذا نقرأ الأدب؟ أو بالأحرى، ما فائدة الأدب؟

تعج الأدبيات الغربية مثلما العربية بإجابات كثيرة عن هذا السؤال الذي يحير “سياسيينا” اليوم، الذين تناسوا الأدوار البديعة التي يضطلع بها الأدب على وجه العموم. تستوقفنا هنا حادثة بليغة يوردها الراحل تزفيطان طودورف، مبينا كيف أن الأدب بإمكانه أن يبلسم الجراح ويعيد إلى الذات الإنسانية ثقتها بعد فترة من الخواء الروحي والانكسار الوجودي، نقرأ لدى طودوروف ما يأتي:” في سيرته الذاتية، الصادرة بعد وفاته في 1873، يروي جون ستيوارت مل الإنهيار العصبي الخطير الذي أصيب به في العشرين من عمره. صار ” فاقد الحس بكل لذة كما بكل إحساس ممتع، في واحدة من تلك اللحظات من انحراف المزاج حيث كل الذي كان يروق في لحظات أخرى يصير عديم الطعم ولا يثير الاهتمام” كل أنواع العلاج التي جربها لم تكن ذات جدوى، واستقر اكتئابه على الدوام… امتدت هذه الحال الأليمة طوال عامين.ثم شيئا فشيئا، انفرجت.

ويلعب كتاب قد قرأه مل مصادفة في تلك اللحظة دورا فريدا في شفائه: إنه ديوان شعر لورسورت. وجد فيه التعبير عن إحساساته الخاصة وقد تسامى بها جمال الأبيات.” وعلاوة على ذلك، فللأدب، شعره ونثره تلك القدرة الهائلة على تضميد الجراح والتعالي عن الواقع عندما يكون أكثر عبثية وأكثر إلغازا، أي عندما نشعر بعدم جدواه. وللإشارة فوظائف الأدب كثيرة و متعددة تتعدد بتعدد زوايا النظر إلى الظاهرة الأدبية نفسها، وهو ما نبه إليه الباحث يوسف الإدريسي في كتابه الرائد ” الأدب، قضايا… وإشكالات” ، وذلك في معرض حديثه عن وظيفة الأدب عند اليونان، عند العرب، ثم وظيفته في النقد الحديث.

كتب ماريو فارغوس غوسا مقالة مطولة يجيب فيها عن جدوى قراءة الأدب وفوائده العظام مشيرا إلى أفضاله، وهو في ذلك لا يستثني كافة حقول المعرفة الأخرى من فلسفة وعلم اجتماع…إلخ. وكان مما أشار إليه أيضا كون ” أن مجتمعًا بلا أدب أو مجتمعًا يرمي بالأدب – كخطيئة خفيَّة – إلى حدود الحياة الشخصية والإجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته ..” .

ويبدو أن اصطناع السياجات الوهمية وإقامة الفارق بين الشعب والكليات و تفضيل الواحدة على الأخرى، هو ما غذى تلك الصورة النمطية التجريحية التي تطال “أدبيينا”، وهي صورة تبعث(نا) على جعلنا نحس بذنب أو كمن اقترف خطيئة ما، لذلك تجد عددا لابأس به يتغنى بأفضال هذه الشعبة أو تلك، وعين الحقيقة أن لا فضل لواحدة على الأخرى. فبالإمكان، وبسهولة، التدليل على أدوار الأدب وكليات الأدب تعميما ــ ولا أدل على ذلك مثلا من رموز الفكر المغربي و “سفراء الثقافة” بتعبير الناقد سعيد يقطين الذين جابوا البقاع وأغنوا المغرب الثقافي على مختلف الأصعدة والمجالات ــ مثلما المواد العلمية وكليات العلوم والطب..إلخ.

تسمح حالات عديدة متحققة في الزمان والمكان بين طلبة العلوم والأدب بإفساح المجال للقول بأن تلك الخطابات التي أوردناها في فاتحة هذا المقال قد استنفت وقتها، مثلما يبعث الأمر على ضرورة إفراغ الأذهان من تلك النظرة الاستعلائية التي تطبع المواقف المتسرعة والجارحة والتي تم إغمادها في لا وعي عدد كبير من الطلبة (وطلبة الآداب على وجه الخصوص). وهو الشيء الذي لا زلنا نجتر تبعاته ونلفيه عند مجايليينا الذين لازالوا يعيدون إلى السطح سؤال جدوى الأدب وكليات الآدب، وكأن الكليات الأخرى بتخصصاتها المتعددة قد قطعت أشواط قياسية في مجال النهوض بالبحث العلمي الرصين والإشعاع الوطني أو حتى العربي..!

الإشكال، كما سبق وأن أشار إلى ذلك الناقد سعيد يقطين هو إشكال يشمل المنظومة ككل. لا جدوى إذن من إقامة جاهز الصور والتصورات حول “الأدبي والعلمي”، “كلية الأدب “كلية العلوم” فلكل واحدة منها مياسمها ورجالاتها، وهذا لا يمنع بحال استحضار تلك التقاطعات التي يراد لها أن تنمحي، لإعلاء راية شعبة على حساب أخرى لأغراض ما. ولعل في هذه ” الضربات” ما يفي بضرورة إعمال العقل والتفكير في تشييد غد علمي مشرق بعيدا عن ربقة الهتافات الفارغة التي لن تفيد مغربنا الثقافي على وجه العموم.