وجهة نظر

القانون والفراغ .. كيف تتبث الأنظمة سلطتها

في مقال قبل هذا موسوم بـ ما بين الفساد والاستبداد، حاولت بما يسمح الحيز والزمن أن أقدم تعريفا يفصل ما بين المفهومين. وقلت إن الفساد يعني فقط اختلال يصيب قوانين الأشياء؛ فتفسد الحبة من الفاكهة تماما كما يفسد الكلام من اللغة، وهكذا دواليك في الشجر والحجر والبشر. وكنت أشرت إلى أن اختلال القوانين المسطورة يؤدي إلى نشوء قوانين موازية تقوم مقام العادة داخل المجتمع، فتصبح أصلا بينما تتحول القوانين المسطورة إلى فروع يتم العودة إليها كلما اقتضت الضرورة.

وفي هذا المقال أيضا لن نخرج عن بسط العلاقة المفترضة بين القوانين ونواقضها، فتكون حاجتنا وضع مفهوم جديد ينضاف إلى جملة المفاهيم المكثفة لدينامية السلطة؛ بين الفعل ورد الفعل، بين مواضع القوة وموضع الفتور أيضا.

إن القوانين الوضعية؛ أي التي يضعها البشر لأنفسهم مستندين إلى وضعيات منطقية، هي قوانين تروم ما أمكنها سد الفراغات عبر إحكام جزئيات داخل كل هو عبارة عن شبكة من العلاقات بين الإنسان مع أخيه الإنسان وبين الإنسان في مقابل الطبيعة. ونحن حين نضع قانونا معينا فإننا نروم تحقيق الحق والعدل عبر سلسلة تخضع للممكن من العقل والعلم. وبما أن الكل هو بالضرورة يساوي جميع أجزائه فإن واضعي القوانين يحاولون بما أمكنهم تجميع هذه الأجزاء داخل خانات من الواقع والمفترض. لكن المهمة ليست سهلة بالمرة مادام أن الأجزاء من الصعب تجميعها مادام أن الواقع يتغير باستمرار، وأن المعني بالتشريع هو كائن اسمه الإنسان. وهو ما يحتم على المشرع في كل مرة تغيير وتعديل القوانين لسد الفراغات تجنبا للقصور.

تؤدي الفراغات داخل القوانين عادة إلى ضياع الحقوق أو تعطيل المساطر وخلق الأزمات الخاصة والعامة، بل إنها في الغالب هي الفجاج التي يسلكها المحامون والنصابون وسائر أهل البلوى والفتوى. فلا يخلو قانون في العالم مهما كانت درجة قوته وعصرنته من فراغات، لهذا فوظيفة المشرع باستمرار هي سد هذه الفراغات.
ليست حاجتنا في هذا المقال الحديث عن مفهوم يعرفه المتخصصون من أهل القانون كما يعرفون أبناءهم، ولكن حاجتنا هي التمهيد للقارئ للدخول إلى ما نحن بصدد الحديث عنه؛ عن كيف تعمد الأنظمة التي ينخرها الفساد إلى خلق فراغات بغية تتبيث وضعيتها وتبرير شرعيتها، عبر إدخال الناس في فراغات هي من تصنعها.

لقد قلت قبلا إن الفراغات تؤدي إلى تعطيل المساطر وخلق الأزمات، وهذا أمر جاري به العمل في كل البقاع حتى العريقة في الديمقراطية، لكن في الأنظمة التي ينخرها الفساد تعمد إلى خلق فراغات يكون الغرض منها السيطرة على المواطنين الذين يدخلون في شباكها..وأنا أعلم أن هذه الفكرة تبدو غامضة بعض شيء لكني سأعمد إلى وضع أمثلة حتى يتم المقصود. إن السلطة في البلدان ذات الشرعية الديمقراطية تفهم من السلطة تقوية القانون، لأن القانون هو الضامن الوحيد لشرعيتها. فتعي أن عليها أن تمنع أي خرق للقانون أو إضعاف أو تنقيص من القانون ورموزه، لذا فهي تصاحب القوانين بعقوبات زجرية ترفع من سلطة القانون… لكن في الأنظمة التي ينخرها الفساد يقع العكس، فالأنظمة تضع القوانين وتخلق الفراغات ثم تحكم سلطتها على الداخلين في الفراغات أي بمخالفة القانون. ومثال هذا أن صاحب مقهى يحتل الملك العمومي هو بالضرورة يخشى السلطة وقادر على الخنوع والخضوع لها والتعامل معها بالتي تشاء هي، بل إنه يقبل بأي ابتزاز يقوم به أدنى رجل في سلم السلطة، لأنه بكل بساطة دخل في الفراغ الذي خلقته السلطة بديلا عن القانون.. والجزار الذي يبيع اللحوم الفاسدة، وصاحب المحل الذي لا يحترم أدنى شروط النظافة، والبائع المتجول… بل إن الفراغات التي تخلقها السلطة موجودة في كل مجال وحال. فالدولة تخلق الفراغات يدخلها المواطنون فيتحولون بالضرورة إلى موالين لها حتى لا تعمل معهم القانون.. ولهذا عندما سألني أحد الأصدقاء عن زعيم الاستقلاليين حميد شباط وقضيته مع السلطة قلت له : إن شباط احتل فراغات الدولة ويوم يفكر أن يحتج بما يجب أن يكون ستتعامل معه الدولة بما يجب أن يكون. ليس شباط فقط ولكنها سلسلة فراغات تضم السياسي والرياضي والمثقف والصحافي وغيرهم كثير.

لا تقتصر قضية القانون والفراغ على بسط الفساد بديلا عن القانون كآلية لتتبيث السلطة، ولكن هذا الأمر قد يتعدى إلى تعمد الأنظمة خلق فراغات داخل القوانين نفسها. ففي الأنظمة الديمقراطية عادة توضع الدساتير كآلية للاستقرار واستمرار الدولة للجميع في شكل من أشكال التعاقد، فهي تحدد الاختصاصات التي تحدد وظيفة كل فرد أو مؤسسة بغية الحد من تسلط الواحد ومنع التحكم في السلط عبر استقالها. لكن في الأنظمة التي تتبنى منظورا مغايرا للدولة هجين، إذ تجمع بين دولة السلطان ودولة المؤسسات، فهي تعمد إلى خلق فجوات داخل الدساتير تعمدها وقت الشدة والفرج لاستعادة سلطتها وموقعها. وما الدستور المغربي المعدل إلا أنموذجا لهذه الحالة حيث نجحت الدولة في حشو الدستور بالفراغات مكنها من الحفاظ على موقعها كأن لم تتحرك.

إن مفهوم القانون والفراغ ليس إلا شكلا من أشكال الفساد وأخيه الاستبداد التي تخلقها الأنظمة لتتبيث نفسها خارج مفهوم الشرعية الديمقراطية. لقد قلنا في البداية إن القانون هو محاولة لوضع حدود لحريات وسلوكات الأفراد في ما بينهم من جهة وما بينهم وما بين الطبيعة من جهة ثانية عبر آلية الوضع.. إن القانون هو ابن شرعي للعقل تكون وظيفته جعل الناس يستعظمون هذه القوة في تنظيم حياتهم فرادى وجماعات، إنه يعدهم فرادى وجماعات بمردودية مضمونة النجاح. أما ما تعمده الأنظمة التي ينخرها الفساد فهي على العكس من ذلك تخاطب في الناس أهواءهم، فالمواطن الذي يدخل الفراغ يحس أنه أفضل حالا وأرحب من زحمة القانون ونكده، فالإنسان كما هو معلوم محكوم بسلطة الأهواء وليس بسلطة العقل، فالأهواء تجعله يفضل أن يخالف القانون ويخرج من فتحة ألا قانون الفسيحة، وهو من حيث لا يدري وهو يحقق حاجة فردية يجني على مجتمع بأتمه بل إن دخوله الفراغ يجعله يفقد رمزيته كذات فاعلة داخل مجتمع القانون ويتحول إلى عبد داخل فراغات السلطة.